والتي تضمنت نسبة النمو ونسب البطالة خلال الثلاثي الثالث من سنة 2025، عن عمق أزمة الاقتصاد التونسي الذي لم تترجم فيه نسب النمو إلى فرص عمل مستدامة، فعمّقت من أزمة التشغيل التي لا يجب أن نختزلها في النسب الإحصائية أو العناوين الكبرى.
لأن البطالة هنا هي أعراضٌ ظاهرة لخلل في بنية الاقتصاد الوطني، وهو ضعف إنتاج القيمة وغياب سياسات عمومية تهدف إلى بناء سلاسل قيمة محلية وإقليمية قادرة على الترقّي بالمنتج التونسي من مادة خام إلى سلعة ذات هوامش ربح ومعرفة وابتكار. فوفق تقرير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) بعنوان «مراجعة جودة الاستثمار الأجنبي المباشر في تونس: تعزيز الإنتاجية وخلق وظائف أفضل» الصادر في 2024، فإن حوالي 71٪ من القيمة المضافة في الصناعة تتركز في ثلاث صناعات منخفضة ومتوسطة القيمة يقتصر أغلبها على التجميع أو التصنيع البسيط الذي ينتج عنه سلع وسيطة/نصف مصنعة تقدّر مجموعة البنك العالمي أنها تساهم في حوالي 22.6 بالمئة من إجمالي الصادرات التونسية، التي تقدّر نسبة صادرات الفلاحة بـ12 بالمئة، في حين تمثل نسبة صادرات مواد أولية خام 9.35 بالمئة.
توزيع الصادرات التونسية ومؤشرات التشغيل التي تكشف أن نصف العاملين ينشطون في قطاع الخدمات منخفض القيمة، يوفران عناصر تمكّننا من تركيب صورة أشمل تشرح الخلل في الاقتصاد، وهو ضعف القيمة المضافة في الاقتصاد التونسي، لا فقط لمحدودية القدرات الصناعية، بل لغياب التخطيط الاستراتيجي المركزي القائم على رؤية واضحة تهدف إلى الانتقال من قطاعات منخفضة القيمة إلى قطاعات عالية ومتوسطة القيمة.
فالاقتصاد التونسي، الذي تمثل فيه مساهمة قطاع الصناعة قرابة 15 بالمئة من الناتج الداخلي الخام، هو اقتصاد عالق في حلقات دنيا من السلسلة الإنتاجية، مما يجعله غير قادر على توفير فرص عمل مستدامة نامية، تلك المصاحِبة للتصميم، والتقنية، والابتكار، والتصدير المرافق بخدمات لوجستية وتسويق، تلك التي لا تنشأ إلا في صناعات تُنتِج قيمة مضافة عالية وتشتغل في حلقات فوقية من السلسلة.
وهنا يكمن الخلل الذي تغيب الإشارة إليه في النقاشات العمومية عن الاقتصاد والتشغيل، تلك النقاشات التي نبحث من خلالها عن حلول تقنّية لأزمة سوق الشغل ولا نفتح نقاشًا عن إعادة تشكيل الاقتصاد التونسي، الذي تشير تقارير البنك الدولي إلى أنه يعاني أيضاً من التقطّع وضعف الرابط البنيوي، ويتجسّد ذلك في مشروعات صغيرة ومتوسطة ضعيفة الربط فيما بينها، وبنية تحتية لوجستية غير متكاملة.
كما أن الدولة، بوصفها المشغّل الأكبر والموجّه الإستراتيجي المحتمل، لم تتبين بعد رؤية وتصورًا متكاملًا من أجل تحقيق القيمة المضافة ووضعها في قلب الاستراتيجيات الاقتصادية، أي أن نحدد القطاعات التي ينبغي الاستثمار فيها، وأن نحقق الربط بين التعليم والبحث والصناعة.
ولعل المثال المناسب اليوم هو كيف تعاملنا مع زيت الزيتون والطاقات المتجددة خلال العقود الماضية. ففي ملف زيت الزيتون، هذه الثروة التي لم ننجح بعد في تحويلها إلى منتوج ذي علامة تجارية عالمية، يمكن أن يحقق عائدات مهمة للبلاد إن تمكّنا من رفع القيمة المضافة فيه، عوض الاقتصار على تصديره كمنتوج خام بنسبة تقدّر بـ80 بالمئة من منتوجنا، وهو ما يفقدنا هوامش أرباح يمكنها أن تتراكم فتولّد استثمارات جديدة تبحث عن تحسين سلاسل القيمة وتُحدث وظائف تقنية وفنية وإدارية جديدة.
أما عن الطاقات المتجددة، فرغم رفع البلاد شعار الانتقال الطاقي، إلا أنها لم تدر ملفها بشكل فعّال وناجع يسمح لها لا فقط بإنتاج طاقة كهربائية للاستهلاك المنزلي أو تصدير فائض الطاقة، بل بأن تكون قطبًا إفريقيًا وإقليميًا في إنتاج الطاقة الجديدة ورائدة في الابتكارات المتعلقة بها، وذلك عبر سياسات عمومية شاملة وليس إجراءات ظرفية محدودة الأثر، سياسات إدماجية أفقية تصوغ خطة تشمل مختلف مناطق التشابك والتقاطع بين الطاقات الجديدة والتصنيع والنقل والتعليم والتكوين المهني… إلخ.
فما نحن إزاءه اليوم في تونس هو تحدٍ اجتماعي وسياسي، يعبر عن نفسه في عودة ارتفاع البطالة في صفوف الخريجين والشباب، ونخاطر اليوم بارتفاع منسوب الاستياء الاجتماعي بالحفاظ على ذات النمط الإنتاجي الذي قادنا إلى هذه الأزمة البنيوية، التي لا يمكن فكها إلا بسياسات يمكنها أن تدمج الخريجين في سوق الشغل وتوسّع قاعدته، وتنتقل بالطلب فيه من اليد العاملة البسيطة أو الماهرة إلى إدماج الكفاءات والإطارات، وتدفع بالبحث العلمي إلى خدمة الصناعة والمنتجات ذات القيمة. وهذا لا يتم ما لم نضع سياسات صناعية واضحة تستهدف رفع القيمة المضافة.
هذا هو المطلوب اليوم: حل استراتيجي وليس قرارًا إداريًا تقنيًا يبحث عن احتواء الأزمة. المطلوب هو إعادة دولة التخطيط التي نجحت في الستينات والسبعينات في وضع مشاريع اقتصادية كبرى، يمكن الاختلاف في تقييمها، ولكن على الأقل كانت محاولات لوضع سياسة صناعية واضحة المعالم تُحدّد القطاعات الاستراتيجية التي يجب أن تُوَجَّه إليها مجهودات البلاد وإمكاناتها.
اليوم نحن محتاجون إلى مثل هذه المخططات والاستراتيجيات التي تجيبنا وتحدد لنا باقي الخطوات من إصلاح للتعليم وبرامج تحفيز اقتصادي وتوجيه للاستثمارات وإصلاح المؤسسات. أي ما نحتاجه هو إعادة تصميم ممنهج لمنظومة الإنتاج الاقتصادي، تقوده الدولة التي يجب أن تستعيد دورها كفاعل إستراتيجي يوجّه الاقتصاد نحو سلاسل القيمة