تمثّلا في اندلاع حرائق على متن سفينتين، «فاميلي» و«الما»، تابعتين لـ«أسطول الصمود العالمي» المتجه إلى كسر الحصار عن قطاع غزة. وقد سارعت الجهات المنظمة للأسطول إلى توجيه الاتهام للاحتلال بالقول إن الاستهداف تم بطائرات مسيّرة، في حين تمسكت السلطات التونسية، بعد الحادث الأول، بتوصيفه كخلل فني أو عرضي.
غير أن مشاهد الدخان المتصاعد من المركبين، وسط روايات متناقضة بين اتهامات الأسطول من جهة ونفي أو صمت السلطات التونسية من جهة أخرى، كشفت أن البلاد وجدت نفسها في قلب عاصفة سياسية واتصالية، تتطلّب إدارة أكثر حنكة ووضوحاً من مجرد بيانات مقتضبة.
في ظل هذا التناقض، يبرز الرهان الأكبر، لا تكفي الاستنتاجات أو الشهادات أو حتى الصور لإقامة حجة قانونية أو دبلوماسية صلبة ضد أي طرف. فالتاريخ مليء بأمثلة مشابهة أثبتت أن غياب الأدلة القطعية يحوّل الاتهامات إلى أدوات سياسية قابلة للتأويل أكثر مما يجعلها أساساً لموقف دولي راسخ. ومن هنا، فإن تسرع تونس في تسمية الفاعل قد يضعها أمام تبعات دبلوماسية وأمنية لا طاقة لها بها، لكن هذا لا يبرر في المقابل نهج الإنكار القطعي أو الصمت، خاصة وأن تكرار الحادث ينسف كلياً فرضية الخلل الفني أو العرضي.
في لحظات كهذه، لا تكفي لغة الطمأنة الباردة. فالأسئلة الحارقة تفرض نفسها، هل تونس بمنأى فعلاً عن صراعات الإقليم والعالم؟ وهل تمتلك من أدوات الحماية والردع ما يكفي لتأمين سيادتها ومصالحها؟ إن استهداف سفن مرتبطة رمزياً بكسر الحصار عن غزة يجعل البلاد، تلقائياً، جزءاً من معركة سرديات وسيادة في آن واحد.
الحادثتان، أيّاً كان الطرف المسؤول عنهما، محمّلتان بدلالات عميقة. عدم تفكيكهما أو الاكتفاء بتركهما في دائرة الغموض سيدفع البلاد نحو أزمة داخلية وخارجية. لذلك، لا بد من استراتيجية مزدوجة: اتصالية وسياسية-دبلوماسية.
على المستوى الاتصالي، من الخطأ ترك فراغ يملؤه الآخرون بالشائعات أو بالروايات غير الرسمية. على الدولة أن تقدّم للرأي العام معطيات واضحة، ما هي الإجراءات المتخذة، أين وصلت التحقيقات، وما الأدلة التي جُمعت. بهذا وحده تستعيد مؤسساتها المصداقية والثقة، وتبقى هي الطرف الذي يملك زمام السردية ويتحكم في روايتها. أما الاكتفاء بالنفي أو الصمت، فهو عنصر أزمة بحد ذاته، يغذي السرديات المضادة ويضاعف الارتباك.
وفي زمن الإعلام المفتوح، لا مجال لسياسة إدارة الأزمة بالصمت. فالمطلوب سياسة اتصالية استباقية وشفافة، تُعلم المواطنين بالمستجدات، وتوضح ما هو ثابت وما هو قيد التحقيق، بما يضمن سيطرة الدولة على المشهد الاتصالي ويمنع أي طرف خارجي من استثمار الغموض لصالحه.
هذا البعد الاتصالي لا ينفصل عن المسار السياسي والدبلوماسي. فالقصة التي ستبنيها تونس، وتستند إلى تحقيق جدي وشفاف، هي التي تحدد موقعها وموقفها. وحدها المصداقية القائمة على أدلة تقنية وملموسة قادرة على دعم الموقف الوطني في الخارج. أما الاتهامات غير المسندة، فستظل عرضة للتشكيك، وتتحول إلى مجرد صرخة في الفراغ.
تونس مدعوة اليوم إلى التوازن بين مطلبين متلازمين، حماية سيادتها وصورتها أمام شعبها، وبناء موقف قانوني ودبلوماسي رصين. فالمخاطر لا تتوقف عند احتمال تكرار الاستهداف، بل تتجاوزها إلى خطر تحوّل البلاد إلى ساحة لتصفية حسابات القوى الإقليمية والدولية. وغياب استراتيجية واضحة أو الاكتفاء بردود آنية سيكون بمثابة تقويض لموقع تونس، لا دفاعاً عنه.
لقد علمتنا التجارب أن إدارة الأزمات ليست مجرد ردود أفعال، بل هي أيضاً صناعة لمعنى الحدث. فهل نريد أن يُختزل ما وقع في مجرد «حادث عرضي» أم نحوله إلى مناسبة لإعادة التفكير في موقع تونس في الإقليم وفي قدراتها الأمنية والاتصالية؟ الخيار بيد الدولة، والفرصة لا تزال قائمة.
في النهاية، لن يُحسم الجدل حول ما جرى في سيدي بوسعيد إلا بقدرة مؤسسات الدولة على كشف الحقيقة وتقديمها للرأي العام بشجاعة وشفافية، وتحويل الأزمة إلى لحظة وعي استراتيجي، بدل أن تكون مجرد عنوان ارتباك جديد
 
			