قراءة في بداية السنة السياسية في تونس: كيف تعيد المنظمات رسم المشهد؟

تستهل تونس سنتها السياسية الجديدة على وقع

مؤتمرات كبرى للمنظمات الوطنية، مؤتمرات قد تبدو في ظاهرها شأناً داخلياً مهنياً أو تنظيمياً، لكنها في الحقيقة تمثل محطات سياسية بالغة الأهمية. إذ أنها ليست مجرد إجراءات تنظيمية، بل هي محطات ستكشف المزاج المدني والنقابي، وتحدد، بشكل أو بآخر، حدود وطبيعة العلاقة بين المجتمع المدني والسلطة، وذلك في وقت تشهد فيه البلاد خلف ستار الجمود البارز حالة من التجاذب السياسي الحاد وانقسامات اجتماعية متصاعدة.

أول الغيث سيكون مع مؤتمر عمادة المحامين، المقرر يومي 12 و13 سبتمبر الجاري بمدينة الثقافة بالعاصمة. مؤتمر قد يُنظر إليه على أنه استحقاق انتخابي مهني يشارك فيه نحو تسعة آلاف محامٍ لاختيار عميد جديد ومجلس للهيئة.

ولكن التمعن في المشهد بشقيه العام والخاص (أي داخل القطاع) يكشف أن هذا المؤتمر يحمل رهانات وطنية بالغة الأهمية. فالعميد القادم لن يكون مجرد ممثل للمهنة، بل سيكون محدداً لإجابات العمادة عن جملة من الأسئلة التي تتعلق باستقلال القضاء واحترام إجراءات التقاضي، وبمدى قدرة المحاماة على الحفاظ على دورها كخط دفاع أساسي عن الحريات وحقوق الإنسان، في وقت يشهد فيه المشهد الوطني محاولات متكررة للضغط على القضاء وتقليص هامش الفعل المدني.

فالرهان السياسي اليوم لمؤتمر المحامين، هو تحديد موقع العمادة وموقفها في عدد من القضايا المركزية وقدرتها على أن تحدد طبيعة علاقتها بالسلطة التنفيذية. فالخيارات التي ستتخذها الهيئة المديرة الجديدة من ملفات قانونية وسياسية وكيفية تعاملها مع التحديات المستمرة لضمان حرية القضاء، لا تقف عند التأثير على المشهد العام بأسره، بل ستعيد تعريف علاقة القطاع بالسلطة التنفيذية.

بهذا المعنى، فإن انتخابات المحامين وإن كانت مهنية، فهي ليست بمعزل عن السياسة، بل هي جزء من معركة وتجاذب سياسي في بيئة متوترة تشهد احتكاكاً متزايداً بين مؤسسات الدولة والمجتمع المدني.

ولئن كانت انتخابات العمادة هي المحطة الأولى، إلا أن السنة السياسية تحمل في ثناياها أحداثاً طبرى تتعلق بمنظمات وطنية ذات ثقل وتأثير في المشهد، ومنها الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان التي تتحرك في إطار مختلف، فهي تقدم على مؤتمرين إن صح القول، مؤتمرها التاسع الذي لم يُعلن بعد عن موعده بشكل رسمي، والذي يُرجّح أن يكون في النصف الأول من 2026، واستكمال مبادرتها التي حملت عنوان المؤتمر الوطني للحوار.

فلئن كان مؤتمرها الانتخابي مؤجلاً إلى ما بعد استكمال الاستعدادات وتجديد الفروع، والتي قد تحجب ظرفياً ما تبقى من مسار المؤتمر الوطني للحقوق والحريات ومن أجل الدولة الديمقراطية، فمن المفترض أن تعقد أشغاله الختامية مع نهاية السنة الجارية. ومن المنتظر أن يشهد هذا المؤتمر، مع نهاية السنة الحالية، جلسته الختامية بعد أن تكون اللجان قد أنهت أعمالها وقدمّت تقاريرها.

هذه المبادرة التي أطلقتها الرابطة بالشراكة مع المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، يراهن أصحابها على أن تتدارك تعثر الانطلاق، وأن تمثل مخرجاتها أرضية سياسية جامعة تقدمها الرابطة والمنتدى لباقي مكونات المشهد التونسي بهدف توحيد جزء من القوة لتغيير توازنات المشهد العام في البلاد.

توازنات باتت اليوم موضع اختبار، لا فقط بمؤتمر الرابطة والمحامين، اللذين قد يعيدان تحديد تموقع المنظمتين في المشهد وعلاقتهما بالسلطة، بل بما قد يفرزه مؤتمر الاتحاد العام التونسي للشغل المزمع عقده في مارس 2026.

هذا المؤتمر بدوره ليس مجرد شأن داخلي، بل هو من أهم الأحداث الوطنية التي سيكون لها انعكاسات مباشرة على المشهد العام. فهذا المؤتمر سيطرح فيه تحديد علاقة الاتحاد مع السلطة ومواقفه من الملفات الوطنية الكبرى، سواء في الاقتصاد أو الحريات أو السياسات الاجتماعية.

وهو ما يجعل من هذه المؤتمرات الثلاثة إعلاناً، وإن كان مبطناً، بعودة السياسة إلى الساحة التونسية من بوابة المنظمات الوطنية. فقراءة هذه المؤتمرات ضمن سياقها الوطني سيبيّن أن السنة السياسية الجديدة تحمل اختباراً حقيقياً لمكانة المجتمع المدني وقدرته على المشاركة في صياغة السياسات العامة والحفاظ على حقوق الإنسان في ظل صعوبات اقتصادية واجتماعية متنامية.

فما سيحدث في قاعات المؤتمرات خلال الأشهر القادمة سيحدد ملامح المرحلة المقبلة أكثر من أي بيانات أو تحركات حزبية، من داخل المنظمات الوطنية الكبرى التي تتحرك اليوم ليس فقط لأجل مصالحها المهنية أو المؤسسية، بل لتعيد رسم حدود مجال الفعل السياسي والمدني في البلاد

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115