تتالت الاقالات في المؤسسات العمومية: أين الخلل ؟

يبدو أن السلطة لازالت تراهن على أن يحقق حلها التقليدي

لأزمات أي من مؤسساتها العمومية «معجزة» وينصلح حال المؤسسة بشكل سحري، لمجرد إقالة رئيسها أو مديريها العام، وكأن الازمة تكمن في الأشخاص فقط لا في الحوكمة ولا الهيكلة. ولعل أفضل مثال عن هذه المقاربة تعامل السلطة مع أزمة الخطوط التونسية التي تتالت اقالات رؤسائها المدرين العامون كحل لتجاوز ازمة لم يدرك البعض ان التغيير القيادي لم ولن يحلها.

فهذه المقاربة الشكلية التي تنطوي على قصور جوهري، تُعيد إنتاج ذات اسباب الهشاشة في المؤسسة، التي ينظر الي ادائها السيئ على انه مسؤولية ادارية فردية ويقع التغافل عن جذور الأزمة الهيكلية التي تعاني منها تلك «تونيسار كغيرها من المؤسسات العمومية. وهي ان الاشكال لا يكمن في هوية من يقود المؤسسة فقط، بل في كيف تُدار وكيف تُموّل وكيف تراقب وتسائل، والاهم كيف تتلاءم مع التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي تتطلبها واقعنا .

وان تعاملنا مع الخطوط التونسية كنموذج للدرس، بهدف معرفة اصل الازمة لرسم خطة اصلاح، فان الحس السليم يجعلنا ننظر اولا الى الناحية الاقتصادية، حينها سنقف على حقيقة ان الواقع المالي والتشغيلي للخطوط التونسية يعبر عن حجم هذه الأزمة واسبابها.

فالمؤسسة التي تعاني من تراكم خسائر مالية وعجز متواصل يمول من المجموعة العمومية لتزال بعيدة كليا عن مسار الاصلاح والعودة للربحية، وهذا ما يتجلي في المعطيات والبيانات المالية والكلية للمؤسسة، فان نظرنا الى ما هو ابعد من التحسن الطفيف في الايرادات المسجل خلال السنة الفارطة، والمقدر باكثر من 2,5 بالمئة عن سنة 2023، او ارتفاع عدد المسافرين على الخطوط ونقل اكثر من 2,2 مليون مسافر ، ونظرنا الى مؤشرات الاداء الاساسية، سنقف على تراجع معدّل تعبئة المقاعد من 74 % إلى 71 %، اي اننا امام تراجع للطلب على خدمات الناقلة الجوية التونسية التي قدمت خدماتها لواحد من اصل اربعة مسافرين مرّوا عبر المطارات التونسية.

هذه الصورة التي يقدمها نصيب الناقلة من السوق ونسبة التعبئة والتكلفة التشغيلة التي تحتسب فيها الاجور والامتيازات الممنوحة للعاملين في المؤسسة، والبالغ عددهم اليوم حوالي 3,800 موظف، وهو عدد مرتفع للغاية مقارنة بحجم الأسطول الفعلي، حيث يبلغ عدد الطائرات النشطة 18 من أصل 34 طائرة تمتلكها المؤسسة اي بمتوسط عدد موظفين 130 لكل طائرة وهو تقريبا صعف المعدل العالمي الذي يقترب من 70 موظف لكل طائرة،

إن هذه المؤشرات وغيرها تُظهر اصل الازمة التي تتجاوز مسالة القيادة التنفيذية، وتبين ان التراكمات التنظيمية والمالية وعدم قدرة المؤسسة على المنافسة في بيئة تنافسية متغيرة ومحتدمة، يحولان بين المؤسسة والاصلاح الذي هو شرط اساسي للديمومة وعودتها الى الربحية او الى التوازن المالي على الاقل ان تمسك الدولة برؤيتها الاجتماعية للمؤسسة .

هذه الصورة تبين منذ البداية ان تغيير الأشخاص في مراكز القرار والسلطة لا يمكن أن يعالج المشكلة الجذرية للخطوط التونسية وبالمثل لبقية المؤسسات الاقتصادية العمومية، وهو ما يجهل من الاصلاح الهيكلي الشامل، الخيار المنطقي الوحيد، للانقاذ، ولكن هذا يتطلب رؤية واضحة لإعادة تعريف دور الدولة في إدارة الاقتصاد، وترتيب أولويات الإنقاذ، وتحديد المؤسسات ذات الأولوية الاستراتيجية التي ينبغي إنقاذها، وتلك التي يجب إعادة هيكلتها أو حتى التخلي عنها.

ففي ظل محدودية الموارد المالية العمومية، لم يعد من الممكن الاستمرار في سياسة الإنقاذ الشاملة لكل المؤسسات العمومية على قدم المساواة. لا بد من وضع معايير واقعية تعكس أهمية كل مؤسسة على صعيد الأمن الاقتصادي والاجتماعي، وقدرتها على تحقيق أداء مالي وتشغيلي مستدام.

وهذا يتطلب ان تحدد الدولة وماهي القطاعات الحيوية التي لا يمكن لها ان تتخلى عن دورها فيها او ان تنسجب منها وتتخلص من ذرعها الاقتصادي فيها، اي ان تحدد ماهو استراتيجي لها ومصيري في ضمان امنها ككل، وبين مؤسسات غير استراتيجية وتنشط في قطاعات تنافسية غير حيوية.بالنسبة للدولة، دون ان تغفل عن تلك المؤسسات التي تقبع في المنتصف وما يحدد حيويتها هو كيف تنظر اليها السلطة والمجموعة العمومية ومثال ذلك الخطوط التونسية تتقاطع فيها عدة عنصار لتحدد ماهيتها في سياسات الدولة، وهل تعتبرها مؤسسة اقتصادية التي تنشط في بيئة تجارية تنافسية تستوجب ان تحقق الربحية او التوازن المالي على الاقل ام تعتبرها ذراع لها في سوق النقل الجوي توظفها لتنزيل سياساتها، لكن في الحالتين المشترك هو ان الخطوط التونسية لا يمكنها الاستمرار على ماهي عليه اليوم، فهي في حاجة الى إعادة هيكلة جذرية لضمان توازنها المالي وتنافسيتها.

هنا لابد من الاشارة الى ان الإصلاح الهيكلي لا يعني بالضرورة التخلّي عن ملكية الدولة، بل يعني إعادة التفكير في وظيفة كل مؤسسة وطرق إدارتها، سواء من خلال تقليص الهياكل والاطار العامل، أو إدخال آليات حوكمة رشيدة تستند إلى الشفافية والمساءلة، أو إعادة توزيع الموارد بشكل أكثر فاعلية. لكن في ظل محدودية الموارد قد يكون من بين الخيارات المتاحة هو شراكة بين القطاع العام والخاص.

فعملية الاصلاح وتعزيز الاسطول وتحسين الخدمات تتطلب تمويل ضخمة، اما ان تتكفل بها الدولة الاقتراض وضح تمويلات مباشر في المؤسسة او عبر إعادة توجيه الدعم المالي الذي تخصصه سنويا للمؤسسات العمومية وتضخه في المؤسسات التي تعتبر ان انقاذها ممكن واستراتيجي على حسبا مؤسسات تعتبرها غير استراتيجية او غير قادرة على تحقيق الربحية، اي ان تضع الدولة اوليويات موضوعية بموجبها تحدد من هي الشرطات والمؤسسات التي ستنقذها وتضخ فيها تمويلات عمومية ومن ستتخلى عنها او تفوت فيها.

وهذا ليس بالامر الهين في ظل السياق السياسي الراهن الذي ترفع فيه شعرات كبرى قد تؤدي للاسف الى نتائج عكسية، ولكن حتى باتخاذ هذه الخطوة المتعلقة بالتمويل فانها ستظل منقوصة ان لم ترافقها في اطار الإصلاح الهيكلي الشامل اصلاحات تتعلق بالحوكمة، والتي يجب ان تنطلق من تقيّد التدخلات السياسية في إدارة المؤسسات، وتمنح استقلالية نسبية للمديرين التنفيذيين مع آليات واضحة للمساءلة، وإعادة تنظيم وتطوير القدرات البشرية.

لقد آن الأوان لأن تتوقف الدولة عن لعب دور رجل الإطفاء الذي يتدخل فقط عند كل أزمة، وأن تبدأ في التخطيط الاستراتيجي يُعيد بناء المؤسسات العمومية لتكون رافعة تنموية حقيقية، بدل أن تكون عبئًا على الاقتصاد الوطني. فلا نجاح دون رؤية واضحة

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115