ويعلن بداية لحظة تأسيسية في تاريخ تونس الحديثة. منها انطلقت مرحلة إعادة تشكيل الدولة والمجتمع على أسس «مشروع التحديث»، الذي حمل بصمات الرئيس الراحل الفكرية والسياسية، وطبع الدولة لعقود بطابعه الرمزي والمؤسساتي.
واليوم وبعد سبعين سنة من تلك اللحظة، لا تزال البورقيبية حاضرة بإلحاح في المشهد وان كان من بوابة سؤال عن ما الذي تبقّى من هذا المشروع؟ كيف نقرأ أثره في بنية الدولة والمجتمع؟ وهل نحن إزاء تجربة تاريخية أغلقت قوسها، أم أمام تركة حيّة لا تزال تؤثر في تصورات التونسيين للدولة والسياسة والمجتمع؟
غالبًا ما تختزل الاجابة عن هذا السؤال في سرد منجزات البورقيبية، بناء مؤسسات الدولة الحديثة و إصلاح التعليم، وارساء منظومة الصحة العمومية، وانطلاق عملية التحديث المجتمعي عبر نصوص قانونية من بينها مجلة الأحوال الشخصية. وهي منجزات لا يُمكن إنكار أثرها البنيوي في صياغة هوية تونس بعد الاستقلال.
لكن ما يندر التوقف عنده هو ما رسّخته البورقيبية من تمثّلات للسلطة، ومن عقيدة في الحكم، تشكلت في لحظة التأسيس، وتسرّبت إلى الدولة والمجتمع معًا، وظلت قائمة حتى في ظل التحولات السياسية التي مرت بها البلاد في عقودها السبعة.
فالبورقيبية، التي انطلقت كمشروع إصلاحي يسعى إلى بناء دولة وطنية عصرية، كانت أيضًا هندسة رمزية ونمطًا ذهنيًا افرز تصورا للسلطة وعلاقتها بالمجتمع. ورسخت بشكل غير مقصود او واعي ممارسات سياسية واجتماعية تعكس بشكل مباشر استبطان ان التغيير المجتمعي لا يتم عبر ديناميكية اجتماعية أفقية، بل عبر قيادة مركزية واعية تمسك بزمام الحكم باسم الشعب. وتحتكر وعيه وتحدد مصلحته. وهنا لم تكن الدولة مجرد أداة، بل ذاتًا عليا، تتجاوز المجتمع وتُخضعه لمنطقها، لا شريكًا لها في صياغة الخيارات.
في هذا السياق، تكرّست رؤية ترى أن الدولة هي القاطرة الوحيدة الممكنة للتحديث، وأن الزعيم هو العقل المدبّر، وأن الرأي المخالف يهدد الوحدة الوطنية. لتتحول هذه التمثّلات إلى نمط ذهني لا يزال يُشتغل اليوم بأشكال متعددة، في الإدارة/السلطة التي تتعامل مع المواطن كمتلقٍّ لا كشريك، وفي الفضاءات العمومية المختلفة التي تنتج الانضباط لا التفكير، وفي تكرار سرديات الإنقاذ لا النقد.
هذه العقيدة تسربت إلى البنية العميقة للمتخيل السياسي، ورسخت فيه وهي اليوم تستمر متوارية غير المعلنة، لكنها تظهر في محاولة استحداث الحاجة للدولة القوية، وفي طريقة مممارسة السلطة، عبر خطاب سياسي يمجد الزعيم، ويقدس الدولة، ويختزل الشعب في كيان واحد، مغلق على ذاته، لا يقبل التعدد ولا يحتمل الاختلاف.
وهو ما استمر في كل عمليات الانتقال السياسي التي مرت بها البلاد، فرغم تغير أشكال الحكم وانظمته ومؤسساته ظل النمط الذهني المتمثل للسلطة وممارستها يقوم على ان التفاعل بين الدولة والمجتمع هو تفاعل هيمنة، تمارس فيه السلطة الدولة هيمنتها وهندستها الاجتماعي بكل الادواة المتاحة امامها لتنزيل مشروعها من اعلى دون الحاجة الى دينامكية مجتمعية افقية لذلك.
لكن هذا لا يعنى اننا ازاء ذات استمرار للبرقيبية كما هي عليه، سواء كمشروع او كعقيدة حكم، بل نحن ازاء انحرافات طالت الامرين، فالبرقيبية ورغم طابعها المركزي والوصائي، الا انها مثلت استمرارا للحركة الإصلاحية في تونس، ووعاء ساهم في تشكل الحركة الديمقراطية الحديثة، التي تبلورت منذ السبعينات في التيار الديمقراطي صلب الحزب الشتراكي الدستوري، كما ان السياسية الاجتماعية والاصلاحية انتجت جيل من التونسيين التحق الحركة الديمقراطية، وساهمت في خلق دينامكية اجتماعية بحثت عن دفع مسار البلاد ومشروعها الحداثي الى مربعات جديدة.
اي انه ولقراءة الارث البرقيبي يجب ان ننتبه الى طبيعته المركبة والى كونه نسيجا من الطموح التحديثي والمنطق السلطوي، من البناء المؤسساتي والإقصاء السياسي، من العقلانية القانونية ومن نزعة التأليه الرمزية. وهو ما يجعل التعامل معه يتطلّب قراءة مزدوجة: تقرّ بما أنجزته البورقيبية في بناء الدولة، وتفكك في الآن نفسه ما زرعته من مركزية مفرطة .
سبعون عامًا مرّت على لحظة غرة جوان. وبينما تُحيي البلاد هذه الذكرى في ظل أزمات سياسية واجتماعية واقتصادية متشابكة، قد يكون من المفيد ألّا نكتفي بالاحتفال بالرمزيات، بل أن نستثمر هذه المحطة لتأمل علاقتنا بهذا الإرث، لا من موقع التمجيد ولا الادانة، بل من موقع النقد التأسيسي القائم على تفكيك رمزي وفكري للتمثّلات الموروثة عن علاقة الدولة بالمجتمع، ربما يكون هذا أفضل ما نقدمه، لا لبورقيبة فقط بل لمشروعه للحركة الاصلاحية ولتونس