أن نعيد فتح النقاش العام بشأن المحاكمة العادلة وشروطها التي لا تتعارض بأي شكل من الأشكال مع مبدأإ المحاسبة والعدالة، خاصة اليوم بعد تأكد نقل سهام بن سدرين إلى المستشفى إثر تدهور وضعها الصحي جراء إضرابها عن الطعام.
بعيدًا عن مطالب سهام بن سدرين وأسباب دخولها في إضراب وحشي عن الطعام أو تفاصيل ملف اتهامها المحال إلى أنظار القضاء، ما نحن إزاءه اليوم ليس حالة فردية أو استثناء؛ إذ تشترك سهام بن سدرين، التي نتمنى لها الشفاء مع الزميلين محمد بوغلاب وشذى الحاج مبارك وغيرهما من الموقوفين، على ذمة قضايا لها امتداد سياسي ممن تعكرت حالتهم الصحية في السجن وبلغت مرحلة من الحرج، مما يلقي بثقله على المرفق القضائي والسلطة السياسية، ويجعلهما اليوم أمام حتمية اتخاذ خطوة شجاعة في مسار إقرار حق كل تونسي في محاكمة عادلة.
مبدأ المحاكمة العادلة ليس أحد أبرز معايير احترام دولة القانون ومبادئ الديمقراطية فقط، بل هو حق أصيل يجب أن تتم حمايته وأن يتمتع به كل تونسي، بصرف النظر عن موقعه الاجتماعي أو السياسي. فحماية هذا المبدإ هي ضمان لبناء مجتمع يحترم الحقوق ويضمن المساواة أمام القضاء الذي لا يمكنه أن يضمن العدل والحق إلا باحترامه وحمايته لمبدإ لا يبدو أننا نختلف نظريًا بشأنه.
فالمحاكمة العادلة ليست شعارًا بل ممارسة وإجراءات يُقعَد تنزيلها على أرض الواقع من قبل كل المتدخلين في المسار القضائي، من ذلك ضرورة أن لا نسقط أهم أركانها وهي قرينة البراءة التي تفترض أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته بحكم قضائي بات. وهذا ليس مجرد قاعدة قانونية، بل هو الضمانة والحماية الأساسية لكل فرد أو مجموعة من التونسيين بأنهم لن يتعرضوا للتعسف ولن تمسّ كرامتهم طوال مراحل التقاضي. في السياق الحالي، تطبيق هذا المبدأ خاصة في القضايا التي تمس شخصيات عامة أو قضايا ذات طابع سياسي يصبح ملحًا وجوهريًا لحماية المشترك المجتمعي.
وقبل الخوض في التفاصيل حول الوضع الصحي لعدد من الموقوفين في قضايا رأي عام، يجب أن نُذكّر أنفسنا والجميع بأن ضمان المحاكمة العادلة لا يتعارض مع مبدإ المحاسبة أو مع تحقيق العدالة. فضمان نزاهة العدالة ينطلق من تحقق التوازن بين حقوق المتهم وحقوق المجتمع، وبين ضرورة تطبيق القانون واحترام كرامة الأفراد. هذا التوازن يُعزِّز الثقة في القضاء ويضمن مصداقية الأحكام التي تُصدرها المحاكم.
لذلك فإن المحاكمة العادلة واحترام قرينة البراءة يحتمان على المرفق القضائي التونسي والسلطة أن يأخذا بعين الاعتبار الأوضاع الصحية للمتهمين قبل صدور قرار الإيقاف والاحتفاظ أو بعده. فاحتجاز شخص يعاني من وضع صحي حرج أو الإبقاء عليه في حالة الإيقاف دون ضرورة حددها القانون التونسي في نقطتين أساسيتين: الأولى أن يمثل الموقوف خطرًا على المجتمع أو على سير التحقيقات، هو تعسف يجعل من إجراء الإيقاف التحفظي إجراءً قد يفتقد إلى روح الإنصاف.
الأوضاع الصحية الحرجة لا تعني بأي حال أن المتهم فوق القانون، لكنها تستوجب أن يتم التعامل معه بإنسانية واحترام لحقوقه، من خلال اعتماد إجراءات بديلة مثل التتبع في حالة سراح خاصة وأن القانون التونسي يتيح هذه البدائل، وهي ليست استثناءً أو تساهلاً مع المتهمين، بل إجراءات قانونية تهدف إلى تحقيق العدالة دون المساس بكرامة الإنسان أو تعريض حياته للخطر.
إن التعامل مع متهمين يعانون من أوضاع صحية معقدة يفرض على الدولة والمرفق القضائي التزامًا قانونيًا وأخلاقيًا يتمثل في حماية كرامتهم وضمان حقهم في الحصول على الرعاية الصحية المناسبة. بما يجعل من الإبقاء على هؤلاء المتهمين داخل السجون، على الرغم من وضعهم الصحي الحرج خيارًا قد يُفهم على أنه نوع من الانتقام السياسي أكثر من كونه إجراءً قضائيًا عادلًا، وهو ما يعزز الشكوك بشأن استقلالية القضاء في تونس ومدى التزامه بمبادئ العدالة والحياد خاصة اذا تزامن ذلك مع المناخ السياسي والاجتماعي التونسي الراهن المتسم بأنه مشحون في ظل انقسام المجتمع إلى فرق وشيع تتعامل مع مثل هذه الملفات بنزعة تدفع نحو استغلال القضايا القضائية لتحشيد الشارع وتأجيج المشاعر الشعبية، حيث يُصور الخصوم السياسيون على أنهم تهديد للأمن القومي، أو على أنها دليل على الانحراف الذي سلكته السلطة إلى الاستبداد واستخدام القضاء كأداة لتصفية خصومها.
هذه الديناميكية لا تؤدي إلا إلى تعميق الانقسامات داخل المجتمع التونسي، وتزيد من تفاقم أزماتنا التي لا يمكن أن نتجاوزها في ظل انقسام حاد لا يمكن أن نخفف من حدته إلا بخيارات شجاعة تتضمن اعتماد إجراءات قضائية أكثر مرونة في القضايا المثارة ضد الخصوم السياسيين للسلطة من بينها أن يكون التتبع في حالة سراح، خطوة نحو تهدئة التوترات وإعادة توجيه الأنظار إلى القضايا الجوهرية التي تهم البلاد.
إما ذلك أو أننا نغامر برفع توتر المناخ السياسي والاجتماعي في البلاد وندفع تدريجيًا إلى أن يرتفع منسوب الاحتقان في الشارع التونسي، وهذا ستكون تداعياته المباشرة ضعف الثقة في مؤسسات الدولة، وأن يرسخ الانطباع بأن هناك انتقائية في تطبيق القانون أو أن العدالة قد تُستخدم كأداة للضغط أو العقاب، فإن ذلك يُضر بمصداقية القضاء ويؤدي إلى تآكل الثقة العامة. هذه الثقة هي الركيزة الأساسية لأي نظام ديمقراطي، وتآكلها ينعكس سلبًا على استقرار المجتمع وتماسكه.
لا يمكن إنكار أن الوضع الحالي في تونس يتطلب الكثير من الحكمة والتوازن في إدارة القضايا ذات البعد الحساس. إن التعامل مع المتهمين الذين يعانون من أوضاع صحية حرجة مثل سهام بن سدرين أو غيرها، يمثل اختبارًا لمدى التزام الدولة بمبادئ العدالة والإنسانية. فالسؤال هنا ليس عن طبيعة التهم الموجهة، بل عن الطريقة التي يُعامل بها المتهمون، وعن مدى احترام حقوقهم دون المساس بمتطلبات التحقيق أو المحاكمة.
إن الدفاع عن مبدإ المحاكمة العادلة ليس مجرد دفاع عن حقوق فردية، بل هو دفاع عن قيم مجتمع بأسره. عندما تُطبق العدالة بشكل نزيه وإنساني، تُصبح قوة توحيد تُعزز الثقة بين الدولة ومواطنيها.
إن بناء دولة القانون يتطلب التزامًا قويًا من الجميع: القضاء والمجتمع المدني والمؤسسات الحكومية لضمان أن العدالة ليست مجرد نصوص، بل ممارسات تُجسد روح القانون وأن لكل تونسي، بغض النظر عن وضعه أو انتماءاته، الحق في أن يُعامل بكرامة وإنصاف، وأن يُحاكم في ظل نظام قضائي يحترم حقوقه ويُقدر إنسانيته.
في النهاية، إن قضية تتبع سهام بن سدرين ومحمد بوغلاب وشذى الحاج مبارك ليست مجرد مسألة قانونية، بل هي اختبار للدولة التونسية وللعدالة