مقترنًا بشكل وثيق بهيئة تحرير الشام وقائدها أحمد الشرع المكنى بـ«أبو محمد الجولاني»، الذي أصبح الشخصية السورية الأبرز في ظل هيمنة تنظيمه العسكرية والسياسية على الشأن السوري ولعبه دورًا محوريًا في تحديد مصير البلاد.
هذه الشخصية التي يعاد تسويقها في الساحة الدولية باسمه الأصلي «أحمد الشرع» لقطع كل ارتباط ذهني مع الاسم الحركي الذي عُرف به منذ 2011 «أبو محمد الجولاني»، لترسيخه اليوم كفاعل سياسي معتدل يمكنه لعب دور في إدارة سوريا مستقبلاً عبر تنظيمه «هيئة تحرير الشام»، التي يراد لها هي الأخرى أن تلعب دور القوة الإسلامية المحلية المعتدلة التي يمكنها منع الفوضى في سوريا و منع هيمنة الجماعات الإرهابية، ومن أجل ذلك تُدرس فرضية رفع اسمه من قائمة الإرهاب الدولي.
للعب ذلك الدور وضمان دعم دولي ومقبولية، أعاد أبو محمد الجولاني وهيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقًا) صياغة هوية سياسية وفكرية جديدة تقطع مع تاريخهما والوصم الذي يلاحقهما بأنها مجموعة جهادية تكفيرية مصنفة في قائمة الإرهاب الدولي، إلى مجموعة إسلامية معتدلة تتبنى العمل السياسي المدني ومقولاته الكبرى من حرية وحقوق أقليات ومواطنة ومساواة.
مقولات تعيد طرح السؤال: هل تخلت هيئة تحرير الشام عن ماضيها وعن عقيدتها السلفية الجهادية التي سوقتها خلال السنوات الفارطة؟ أم أن ذلك مناورة تكتيكية تهدف إلى التمكن من الحكم في سوريا بدعم خليجي وتركي وأمريكي بمقاربة براغماتية ترحّل بقية المسائل إلى أزمنة أخرى؟
الإجابة هنا لن تكون قطعية جازمة، إما بالقول بأن هيئة تحرير الشام قطعت كليًا مع ماضيها الجهادي التكفيري، أم أنها تمارس أداة «التقية» لتسوق الى نفسها صورة تقنع بها الغرب أساسًا بأحقيتها بالحكم في سوريا إلى حين التمكن. في كلا الحالتين لن تستطيع أن تغادر خانة التنظيمات السلفية الجهادية وهي هويتها الأصلية.
هيئة تحرير الشام ليست وليدة الـ 28 من نوفمبر الفارط، تاريخ انطلاق عملية ردع العدوان التي انتهت بإسقاط نظام الأسد، بل هي كيان يمتد تاريخه على امتداد سنوات الثورة والحرب الأهلية السورية، منذ 2011، تاريخ إيفاد أبي محمد الجولاني من العراق إلى سوريا لتشكيل مجموعة جهادية للمشاركة في الحرب الأهلية السورية من قبل تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين.
وقد تأسست جبهة النصرة في 2011 بقيادة أبي محمد الجولاني كامتداد لتنظيم القاعدة في العراق، قبل أن تستقل الجبهة عنه تنظيميًا وتعلن البيعة المباشرة لزعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري الذي انتصر للجولاني على حساب أبي بكر البغدادي في بداية الخلاف بين فرعي التنظيم في العراق وسوريا «تنظيم الدولة الإسلامية في العراق» وجبهة النصرة.
خلاف انطلق في بدايته نتيجة تباين مقاربة النصرة عن مقاربة تنظيم القاعدة ببلاد الرافدين، الذي تطور لاحقًا ليصبح «داعش» (اختصارًا لتنظيم الدولة بالعراق والشام) بشأن مسألة الحاضنة المحلية وكيفية تعاطي جبهة النصرة معها تحت قيادة الجولاني الذي اختلف عن البغدادي في تقديمه لأولويات حظيت «النصرة» من خلالها بدعم السوريين، وهو ما دفعها إلى التمايز في التعاطي معهم عما يطالبها به البغدادي الذي ذهب إلى إعلان قيام دولة الخلافة وأعلن نفسه خليفة.
في هذه المرحلة التي تلت قيام الدولة الإسلامية، تباينت «النصرة» كليًا عن التنظيم الذي ارتبطت به ودعمته طيلة سنتين ومكنته من التمدد في المجال السوري خاصة عند الحدود السورية العراقية قبل أن تنقلب عليه وتعلن الصراع معه، صراع استمر طيلة سنوات. لاحقت فيها «النصرة» أعضاء التنظيم والجماعات المرتبطة به في مناطق سيطرتها، ولاحقًا في المناطق التي انسحب منها وخاضت معه معارك دموية.
هذا الصراع الذي انطلق باختلاف التقييم السياسي بين التنظيمين والنهج الذي اعتمده كل منهما، امتد ليشمل المنهج العقائدي في ظل هيمنة تيارين فكريين عقائديين مختلفين سواء في داعش وفلولها أو في جبهة النصرة، التي أعلنت في فبراير 2014، بعد مقتل القيادي «أبو خالد السوري» في هجوم شنته جماعات مرتبطة بداعش عن حربها على التنظيم بعد فشل جهود الوساطة التي قادها رجال دين.
ثم أعلنت الجبهة بعد سنتين عن فك تحالفها مع داعش وفك ارتباطها بتنظيم القاعدة وتغيير اسمها إلى «جبهة فتح الشام». يومها تحدث أبو محمد الجولاني ليسوق لفك الارتباط ودوافعه التي اتضح أنها محاولة لتخفيف الضغط الدولي والإقليمي على الجبهة، التي باتت من يومها تقدم نفسها كحركة جهادية سورية محلية.
فك الارتباط سمح للجبهة الجديدة أن تتوسع تحت مسمى جديد، لتضم جبهة فتح الشام وريثة النصرة مع عدة فصائل إسلامية، أبرزها حركة نور الدين الزنكي، و«لواء الحق»، و«جيش السنة» و«جبهة أنصار الدين»، التي أعلنت جميعا عن تشكيل «هيئة تحرير الشام». التي قالت أنها تتبنى البراغماتية في التعامل مع الواقع السوري، مما جعل عدة فصائل جهادية تكفيرية محلية تنظر إليها على أنها انحرفت عن «المنهج الجهادي»، مما أدى إلى انفصال عدد من المجموعات المسلحة عنها وتحالفها مع فصائل مسلحة أخرى لتخوض معها منذ 2017 معارك لبسط السيطرة والنفوذ أدت إلى جعل التوازن بين هيئة تحرير الشام وباقي الفصائل الجهادية التكفيرية الناشطة في سوريا هشًا، خاصة اذا تعلق الأمر بالتوازن بينها وبين «تنظيم جيش الإسلام» وما تبقى من «تنظيم أحرار الشام». هشاشة التوازن تواجهها الهيئة اليوم بدعم تركي، لكن ذلك لم يكن كافيًا، فعززته بخطاب جهادي يسوق داخليًا ظهر في إدارة الهيئة لإدلب منذ 2017، والتي تبين تقارير المرصد السوري لحقوق الإنسان نهجها المتشدد والقمعي وفرض لأحكام الشريعة.
تجربة هيئة تحرير الشام في إدارة إدلب وفي غيرها من المناطق التي بسطت عليها سيطرتها منذ 2017، كذلك المعجم الديني الذي ظهر بشكل جلي في خطاب قادتها، يبيينان أننا أمام تنظيم يفرض على نفسه وعلى كل السوريين الإجابة عن حزمة من الأسئلة المتعلقة بهويته السياسية والتنظيمية.
أبرز هذه الأسئلة: هل أن الهيئة لا تزال تنظيمًا جهاديًا يتبنى عقيدة الجماعات التكفيرية؟ أم أنها تخلصت من هذه العقيدة وظلت وفية لبنائها التنظيمي السابق فقط؟
بسؤال مختزل: هل أن ما تعلنه هيئة تحرير الشام من تبني الحداثة السياسية ناتج عن مراجعات متعمقة لنهجها الفكري والعقائدي، أم أن ذلك مجرد تكتيك تخفي من خلاله هويتها الجهادية التكفيرية؟