ان يحصل توافق في تقييم اي قطاع او أي مجال او ان يجمع جزء واسع من التونسيين على تشخيص الواقع بعيدا عن التجاذبات السياسية والاصطفاف خلف هذا الفريق او ذاك.
وقد باتت كل اوجه الحياة العامة وكل تفاصيل الشان العام محكومة اليوم بسرديتين كل منهما تعمل على نسف الاخرى والتجريح فيها والتشكيك في منطلقاتها، هنا لا يستثنى الاقتصاد والوضع المالي العام للبلاد التونسية من التنافر الحاد بين تقييم السلطة وتشخيصها وبين معارضيها وعدد من خبراء الاقتصاد.
في الخطاب الرسمي يستمر التشبث برواية النجاح وتحقيق النتائج الايجابية، سواء أتعلق الامر بسداد خدمات الدين لسنة 2024 او بتقلص اللجوء الى الاقتراض الخارجي والتحكم في عجز الميزانية وتقليص عجز الميزان التجاري وتراجع نسبة التضخم وغيرها من المؤشرات التي اذا نظر اليها بمعزل عن البقية تكون ايجابية.
في اخر البيانات التي نشرها المعهد الوطني للاحصاء المتعلقة بنسبة التضخم او الميزان التجاري، اعلن ان نسبة التضخم الخاصة بشهر اوت الفارط قدرت بـ6,7 ٪ بعد ان كانت 7 ٪ في شهر جويلية. وبذلك نسجل تراجعا للشهر الثاني على التوالي.
مؤشر اذا اقتصر النظر اليه كوحدة جامعة يكون الانطباع والتقييم الوحيد الممكن هو التقييم الايجابي الا ان ثنايا البيان وتفاصيله توضح بان المرد الاساسي للتقلص الذي سجل يعود الى التراجع المسجل في قطاع الملابس والاحذية الذي تراجع بـ٪4,5 مع انطلاق موسم التخفيضات. اضافة الى حصول تراجع في عدة قطاعات.
وهنا تقدم نسبة التضخم السجلة مشهدين متعارضين، الاول يبرز تحسنا ظاهريا، لكن تكمن خلفه معضلة تراجع الاستهلاك التي تتجلى بشكل صريح في نسبة النمو المسجلة خلال السداسي الاول من سنة 2024 وهي 1 ٪ مستفيدة من الموسم الفلاحي الاستثنائي لا من الاستثمار او الاستهلاك.
بهذه المقاربة يمكن ان ننظر الى كل المؤشرات الاقتصادية التي تبين اليوم، بشكل متواتر، عن دخول البلاد في منحى الانكماش الاقتصادي رغم كل المؤشرات الايجابية المعلنة، والمتعلقة بمخزون العملات الاجنبية او بنسبة التضخم او بعجز الميزان التجاري. مرة اخرى تقودنا هذه المؤشرات بمفردها وبمعزل عن بقية المشهد، الى استنتاجات اولية سمتها الاساسية ايجابية، الا ان بمجرد وضعها في اطارها العام وقراءتها مع مؤشرات اخرى، من بينها نوايا الاستثمار في القطاع الخاص او بعض التفاصيل التي كشفها التقرير الصادر عن معهد الاحصاء والمتعلق بالمسح السداسي للصناعات المعملية في تونس، يبين ان اصحاب المؤسسات عدلوا من توقعاتهم للاستثمار واعادة الاستثمار مما انعكس على واقع الاستثمار سلبا بتسجيل تراجع في مؤشره العام.
وقد اشار سبر الاراء الذي اجراه معهد الاحصاء الى تراجع الاستثمارات الخاصة بالسداسي الاول وانها مرشحة للارتفاع في السداسي الثاني مما ستنجر عنه نتائج سلبية على المؤشرات الاقتصادية العامة، ويمكن استنتاج ذلك من خلال رصد الميزان التجاري والذي ولئن أعلن انه سجل تراجعا في العجز الا ان التفاصيل تبين ان هذا التراجع ظرفي وراجع الى تراجع الواردات لا الى ارتفاع الصادرات التي سجلت بدورها انخفاضا.
هذا التراجع نجد تفسيرا له في الاستنتاجات الصادرة عن تقرير معهد الاحصاء الخاص بسبر ارائ اصحاب المؤسسات والذي يشير الى الاستقرار في الطلبين الداخلي والخارجي وبالتالي حصول استقرار في معدل الانتاجية التي عرفها التقرير بأنها «استقرار لنسبة استعمال القدرة الإنتاجية للمؤسسات الصناعية» واشار الى انها «دون معدلها». وهذا يعني ضمنيا غياب الطلب الجديد مما يفسر تراجع نوايا الاستثمار واعادة الاستثمار كذلك تراجع الاستهلاك الداخلي.
جميع هذه المؤشرات اذا وقع النظر اليها مجمعة يمكنها ان تفسر نظريا الواقع الاقتصادي التونسي الذي يعيش على وقعه جل التونسيين في معاشم اليومي، وهو ان البلاد امام ازمة اقتصادية اكثر مما يتوقع. والخشية كل الخشية ان الارقام الايجابية المعلنة قد تحجب عنا الصورة الكاملة والتي تبين ان البلاد في اتون ازمة خانقة من المرجح ان تنفجر تباعا اذا استمر الوضع على ما هو عليه: تراجع الاستثمارات الخاصة والعامة وتراجع الطلبين الداخلي والخارجي، مما سيؤدي مباشرة الى ركود يتبعه انكماش