ومصادر تمويلها لتشكل مشهدا اوليا «طهوريا» يجعل من تكلفة الناخب الواحد في الدور الاول الممتد 21 يوما في حدود 16 مليم.
سقف الانفاق الاقصى الذي حددته السلطة التنفيذية ونشرته، بعد اخذ راي هيئة الانتخابات، في الرائد الرسمي عدد 108 لسنة 2024 قدر بـ150 الف دينار لكل مترشح في الدور الاول وبـ100 الف دينار للمترشحين للدور الثاني، مما يعني ان الرئيس القادم للجمهورية التونسية سينفق في حدود 27 مليما عن كل ناخب في الدورين.
هذا الرقم كاف لوحده لتقديم صورة عما سيكون عليه نسق الحملة الانتخابية في الدور الاول للرئاسية ، التي ستكون مكبلة بشروط صعبة تحدّ من قدرة المترشحين على التوجه للناخبين وتنظيم اي نشاط سياسي انتخابي.المترشحون الثلاثة للانتخابات الرئاسية سيكونون امام امتحان غير مسبوق حول مدى قدرتهم على التصرف في نفقات الحملة دون تجاوز سقف الانفاق المحدد وهذا صعب جدا وقد يراه البعض شبه مستحيل.
في الانتخابات الرئاسية السابقة، 2014 او 2019 اعلنت هيئة الانتخابات عن ان معدل الانفاق لكل مترشح كان بين 140 الف دينار و130 الف دينار، وهو المبلغ الذي لم يتجاوزه جل المترشحين في الاستحقاقين الفارطين وكانت نفقاتهم في الحملة دون ذلك المبلغ والمعطيات الخاصة التي نشرها المترشحون في انتخابات 2019 ممن نظموا حملاتهم الانتخابية وفق الحد الانى الممكن: (توزيع بيانات وطباعة معلقات وملصقات وتنظيم اجتماعات شعبية كبرى بين 3 اجتماعات و 5 اجتماعات) كانت نفقاتهم المعلن عنها في حدود 280 الف دينار فما فوق.
هذا المبلغ الذي كشفه احد المترشحين في الدور الاول من استحقاق 2019 تضمن في تفاصيله مبلغ 83 الف دينار للمطبوعات التي قام بتوزيعها او تعليقها، وهي ارقام تتعلق فقط بعملية الطباعة، اذا وضعت جنبا الى جنب مع سقف التمويل الاقصى الذي حدده الامر الرئاسي المنشور في الرائد الرسمي ستكون هناك معضلة كبرى ستواجه المترشحين في تبويب نفقاتهم.
لقد حدد الامر سقف الانفاق ومصادره، وهي هنا مصادر تمويل ذاتية او مصادر خاصة يمكن الحصول عليها من تبرعات عينية او نقدية من الاشخاص الطبعيين، ويحجر على الذوات المعنوية تمويل اي مترشح، هنا لا يقتصر الامر على الشركات او المؤسسات الاقتصادية بل كذلك على الاحزاب وفق ما بينه احد اعضاء هيئة الانتخابات حينما اشار الى ان الاحزاب تعتبر ذوات معنوية لذلك فان القرارات والاوامر الترتيبية الخاصة بتمويل الحملة تحجر عليها المساهة في تمويل اي مترشح.
قد تكون الارقام غير كافية لوحدها لتشكيل صورة تقريبية تبين صعوبة المهمة الموكولة للمشرفين على حملة اي مترشح للاستحقاق الرئاسي، اذ سيكون اما معضلة اساسية تتعلق بمدى قدرته على اثبات انه لم يتجاوز سقف الانفاق الذي فصله القرار عدد 546 الصادر عن هيئة الانتخابات في 21 اوت الفارط والذي رسم اطارا قانونيا حدد آليات جمع تمويلات الحملة وكيفية صرفها وانفاقها والمحاذير التي يعاقب عليها.
هذان النصان شكلا الاطار المنظم للحملة الانتخابية ورسما ملامحها بما يدل على انها ستعتمد على التواصل المباشر بالاساس دون اية نشاطات كبرى او بهرج او اي اوجه من اوجه الانفاق، وجعلا مساهمة انصار اي مترشح مقيدة باعتبار ان اي نشاط في اطار الحملة يجب ان يعلن عنه وان تضبط نفقاته في سجل يسلم الى الهيئة متضمنا المساهمات العينية التي قدمها اعضاء الحملة، حتى وان كانوا متطوعين مما قد يشكل تحديا يصعب مهمة اعضاء حملة اي مترشح للاستحقاق.
ما نحن ازاءه اليوم هو سقف تمويل واطار قانوني يحصر المترشحين واعضاء حملاتهم الانتخابية في مربعات تحرك ضيقة قد تقتصر على بعض البيانات او الملصقات محدودة الجودة وعلى الاتصال المباشر او التجمعات الصغرى بحد ادنى من الانفاق لضمان عدم تجاوز سقف الانفاق ولو بشكل غير مقصود او مباشر، وان اية ادوات او آليات او امكانيات ستستعمل في الحملة سيقع احتسابها ضمن النفقات اي انها ستكون مدرجة في حسابات المترشحين وهذا يشمل معلوم التنقل بوسائل نقل خاصة او عامة.
في القرار الصادر عن الهيئة وقعت الاشارة الى التمويل المقنع الذي فصلته الهيئة معتبرة انه يتضمن الموارد الخاصة او العمومية التي يقع توجيهها لفائدة مترشح ما بشكل مباشر او غير مباشر، مما يعني تحديد قدرة انصار اي مترشح للانتخابات على التحرك الطوعي للترويج لمرشحيهم دون ان يسقطهم ذلك في مخاطر تجاوز سقف التمويل.
هنا قد تبرز للناظر الى النصوص القانونية المتعلقة بسقف تمويل الحملة معضلة اساسية وهي محدودية الموارد المتاحة لاي مترشح للتصرف فيها وفي ذات الوقت ضمان عدم تجاوزها لسقف الانفاق الذي ان نظر اليه على انه عملية حسابية يراد منها معرفة التكلفة المحتملة لكل ناخب في الدورين مفردة او مجمعة، سنجد رقما يصعب ان يكون له مثيل في كل التجارب المقارنة، و يتعلق الامر هنا بتكلفة الناخب، فنحن ازاء ارقام صفرية تقريبا.
هذه الارقام تتعارض مع ما يفترض ان تفرزه الحملة الانتخابية وسقف تمويلها وهو احداث حركية في الشارع الانتخابي وحث الناخبين على التوجه الى صناديق الاقتراع، بتكلفة تترواح بين 16 مليم للدور الاول و11 مليم للدور الثاني عن كل نناخب قد يكون من الصعب لاي مترشح ان يبلغ صوته الى اكبر عدد ممكن من الناخبين ناهيك عن اقناعهم وفق الادوات القانونية والمشروعة المتعلقة به وببرنامجه الانتخابي.
في غياب النشاط الجماهري وفريق حملة تتوفر له كل الامكانيات للتحرك في مختلف الدوائر في الداخل وفي الخارج سيكون من الصعب على اي مترشح ان ينظم حملة تستجيب للحد الادنى الممكن، وهي تنظيم نشاط شعبي وميداني واتصالي ودعائي دون الوقوع تحت طائلة تجاوز سقف الانفاق الذي قد يعتبر جريمة انتخابية تتضمن عقوباتها الغاء كليا او جزئيا للاصوات.
هذا الخطر سيدفع المترشحين الى العزوف عن اي نشاط مكلف مما قد يؤدي في النهاية الى حملة انتخابية ضعيفة قد تمر مرور الكرام دون لفت انتباه الناخبين التونسيين، وهذا من شانه ان يؤثر سلبا على نسب المشاركة وعلى وقع الانتخابات برمتها. لا يبدو ان ذلك مبتغى هيئة الانتخابات التي تؤكد على انها حريصة على الحد من تدخل المال الفاسد في العملية الانتخابية الا ان افراطها في الحرص ادى بها في النهاية الى عدم الانتباه الى انها قد تضيق المجال كليا فتحول دون ان تشهد البلاد حملة انتخابية ذات وقع و ذات صدى