قد يوحي هذا العنوان بأن العالم الماضي (مهما كانت المسافة الزمنية لهذا الماضي ) افضل من عالمنا الحالي ومن الذي سيرثه، وفي رأيي هذا الاعتقاد لا معنى له، فالماضي – اجمالا – لم يكن افضل بالمرة والحنين اليه ليس له ما يبرره اذا ما استثنينا سليلي بعض السلاطين والملوك الذين مازالوا يتحسرون على ماض تليد.
العالم متى اصبح عالما اي متى حصل حتى عند البعض (الحكام والتجار والفلاسفة والعلماء وقادة الجند اساسا) الوعي بوحدته النسبية وبتأثر بعضه ببعض، هو عالم خطِر كخطر محيط اي كائن حي، ولكن الخطر – كما اوضحنا ذلك في الحلقة الاولى – مرتبط دوما بالفرص وتعاظم الخطر يعني ايضا تعاظم الفرص .
هذه الجدلية التي تحكم العالم منذ ان كان عالما فالماضي ليس افضل بل اقل تعقيدا وتركيبا والمستقبل ليس افضل ولا أسوأ بل اكثر تشابكا وتعقيدا وتأثير الانسان على المحيط اكبر بكثير مما شهدته البشرية طوال حياتها بما يجعله عالما خطِرا وبما يجعل خطورته في ازدياد تماما كما الفرص التي ستتوفر للأفراد والجماعات والأمم والدول.
العولمة، كما اسلفنا، ليست وليدة اليوم بل تعود بواكيرها الاولى الى حوالي الف سنة وكان منعرجها الثاني الكبير هو اكتشاف/ احتلال «العالم الجديد» من قبل الاسبان وبعد ذلك من اهم الدول الاوروبية بما مهد لسيطرة شبه مطلقة للقارة العجوز في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
التحقيب لمختلف مراحل العولمة ليس باليسر الذي قد نتخيله لان العوامل المحددة للعولمة كثيرة جدا وتحديد الرئيسي فيها ليس دائما واضحا. يمكن ان ننطلق من انهيار الاتحاد السوفياتي كتاريخ لهذه المرحلة الحالية من العولمة باعتبار اننا خرجنا من الصراع بين المعسكرين الشرقي والغربي وان الولايات المتحدة اضحت الامبراطورية التي تهيمن ايديولوجيا واقتصاديا وعسكريا وعلميا على العالم فنحن كما يقول بعضهم ي عصر العولمة الامبراطورية. ولكن لا نفهم هذه المرحلة من العولمة لو اغفلنا التطور المطرد للتجارة العالمية وللطرق السيارة للمعلومات وشبكات التواصل الاجتماعي والبث الفضائي للتلفزات والاذاعات ومنصات الافلام والأغاني وأسواق المواد الاولية والأسواق المالية ومختلف المنظمات الاممية والقوانين الدولية المنظمة لكل مجالات العلاقات بين الدول مع الازدياد المطرد لعدد السياح وحركات الهجرة النظامية وغير النظامية وسرعة انتشار الامراض الجديدة، كالكوفيد مثلا، نظرا لاتساع حركة التجوال العالمي..
كل هذه مخاطر وفوضى العولمة ولكن هنالك مخاطر ثلاثة رئيسية بعضها ينذر بحروب محدودة ولكنها قد تكون مدمرة والبعض الاخر يهدد الوجود البشري .
لعل الخطر الاول هو الانتقال من عالم تحكمه امبراطورية واحدة كما كان الحال في بداية تسعينات القرن الى عالم تتنازع على ريادته بلدان: الصين والولايات المتحدة مع دولة تمتلك ترسانة عسكرية تقليدية ونووية هائلة: روسيا وقوى اقليمية (الهند وإيران وتركيا والبرازيل وجنوب افريقيا والمملكة السعودية ..) لها نفوذ متصاعد وتأثيرات واضحة على السياسة الدولية.
عبارة عالم متعدد الاقطاب غير دقيقة وذلك للسبب التالي :
في سنة 2024 يقدر الناتج المحلي الاجمالي للولايات المتحدة بـ28.8 بليون دولار تليها الصين الشعبية بـ18.6 ثم المانيا بـ4.6 فاليابان 4.1 فالهند بـ3.9.
من الناحية الاقتصادية والتجارية والعلمية والتكنولوجية والفضائية والى حد ما العسكرية التنافس على اشده بين بلدين اثنين وكل الخبراء في العالم يتوقعون انه بعد عقد او عقدين على الاقصى ستتجاوز الصين الولايات المتحدة في هذا المجال.. لاشك ان الناتج المحلي الاجمالي لوحده لا يفيد التفوق الاقتصادي الصيني ولكنه مؤشر يعبر على تراكم جملة من المؤشرات منها حجم الصين في التجارة العالمية (الان في حدود %15) ثم حجم العملة الصينية في المبادلات الدولية (الان في حدود %3) وهذا يعني ان الصين التي ربحت معركتها في التجارة الدولية لم تربح بعد معركة العملة وبقيت الى حد الان في موقع دوني بالنسبة للدولار، ولكن الصين ودول الجنوب الكلي لا تريد ان تبقى خاضعة الى ما لا نهاية الى هيمنة الدولار وهذا يعني ان حروب العملة ستكون عنيفة وسوف تستعمل فيها كل الأسلحة. نفس الامر يقال على مختلف المواصفات التكنولوجية كـ 5G..
من سيكون الاول ؟ ومن سيفرض مواصفاته على بقية العالم ؟ وهذه الحروب الظاهرة او الخفية ستمتد الى غزو الفضاء والذكاء الاصطناعي وصناعة الاسلحة الذكية .
ولا ينبغي ان ننسى ان الولايات المتحدة ليست وحدها في هذه «الحروب» القادمة فمعها حليف لا يملك الاستقلال بذاته ونعني به دول الاتحاد الاوروبي يضاف اليه اليابان وكندا واستراليا، ولكن الصين كذلك ليست وحدها فلديها حليف ذو وزن كبير عسكريا وطاقيا: روسيا وما يسمى كذلك بدول الجنوب الكلي (le sud global) ولكننا هنا لسنا امام حلف بالمعنى القوي للكلمة كما هو الشأن بالنسبة للدول الغربية (الحلف الاطلسي) وهذا ما يجعل من مصير هذه المعركة غير محسوم سلفا .
لو اقتصر هذا الصراع على «الحروب» الناعمة لهان الامر رغم خطورته على كل بلدان العالم التي ستجد نفسها مدعوة الى الاصطفاف من الآن ولكن اضعاف خصم بحجم الصين او الولايات المتحدة لن يتم بالتراضي او بحروب ناعمة بل وكذلك وخاصة بحروب فعلية وباللعب على التناقضات الداخلية او في اقليم الخصم قصد جره الى حرب استنزاف دون مشاركة مباشرة من الطرف الاخر كما يتم اليوم الامر مع روسيا في حربها على اوكرانيا.. فمن غير المستبعد اطلاقا ان يتم جر الصين الى حرب في تايوان مثلا قصد استنزافها واشغالها كما لا نستغرب من اثارة حروب اقليمية بين دول ذات تموقعات متناقضة في هذا الصراع .
لا يتوقع احد اليوم انهيارا فجئيا لأحد هذين المعسكرين كما كان الشأن بالنسبة للاتحاد السوفياتي كما ان هيمنة الصين على العالم وفق النمط الامريكي مستبعدة تماما لأنها لا تخدم مصلحة الصين بداية ولان بلد ماو تسي تونغ قد يستعمل القوة لفرض ما يتصوره مصالحه الاستراتيجية في بحر الصين لكنه يفضل «القوة الناعمة» في علاقته ببقية دول العالم.. قوة ناعمة على التجارة والتفوق العلمي والتكنولوجي ولهذا لن تصبح الصين شرطي العالم كما هو الشأن بالنسبة للولايات المتحدة الامريكية منذ الحرب العالمية الثانية .
هذا الخطر الاول الذي هدد العالم، ولكن العالم مهدد ايضا بخطر الهويات القاتلة والمتقاتلة وبالخطر المناخي المنذر هو بدوره بحروب الفقر والجفاف.
(يتبع)
III- مخاطر الانغلاق الحضاري