لبيانه بشان قانون المالية إلى يوم 11 ديسمبر الجاري، تاريخ ختم رئيس الجمهورية لقانون المالية، لم يتطرق النقاش العام إلى نقطة مركزية ومهمة وهي نسبة النمو المفترضة التي قدمت في رقمين، 3 % حسب رئيس الحكومة في كلمته و2.1 % ضمنت في قانون المالية.
هذا الفرق في التقدير، رغم أهمية ما يشير إليه يعتبر ثانويا مقارنة بما تكشفه كافة تفاصيل القانون من تناقض بين رفع شعار التعويل على الذات والصبر من اجل استعادة نسق النمو والصورة الواقعية التي يرسمها القانون يكشف عن ترسّخ الخلل الهيكلي في بنية الاقتصاد التونسي وانعكاس ذلك في نمو هش باتت البلاد رهينة له منذ 2005 التي انطلقت فيها التحذيرات بأن المنوال التنموي التونسي بلغ حدوده وان الإصلاحات الجوهرية باتت ضرورية حتى تتمكن البلاد من تحقيق نمو مستدام.
تحذيرات أطلقت بعد وقت كانت فيه البلاد تحقق معدل نمو سنوي بـ4.5 % بين 2000 و2010، وكانت تهدف إلى استباق الخطر الذي دخلنا منطقته منذ 2011 وما عقبها من سنوات رسّخ فيها النمو الهش كخلل هيكلي تجلى في توقف اهم محركات النمو الأساسية وهي «الاستثمار والاستهلاك والتصدير».
في النشرية التي أصدرها البنك المركزي والمتعلة بمضمون اليوم الدراسي البرلماني الذي انتظم يوم 1 نوفمبر الفارط، كشفت الوثيقة التي تحمل عنوان «تقديم حول تطور الظرف الاقتصادي والمالي الوطني والسياسات المتبعة من قبل البنك المركزي التونسي» عن حجم الازمة التي تمر بها البلاد والمتمثلة في وقوعها في فخ النمو الهش الهيكلي، اذ يشير البنك المركزي الى ان النمو المحقق في السنوات بين 2011 و2022 كا بمعدل سنوي 1.1 % كما كشف عن مؤشرات تثير المخاوف حول ما بات عليه النمو في القطاعات الاقتصادية الخمس، حيث سجل في 2023 نمو سلبي في قطاعين منها وهما الفلاحة والصيد البحري بـ9.7 - % وفي الصناعات غير المعملية بـ2.2 - %، فيما حقق قطاعي الصناعات المعملية والخدمات غير المسوقة نسبة 1 % او فوقها بقليل أي ان النمو الايجابي الذي تحقق في السنة الجارية كان في الخدمات المسوقة بـ2.8 % وذلك بفضل موسم سياحي ممتاز، الا أن ذلك لا يمكن ان يحوّل النمو في تونس من نمو هش إلى نمو مستدام أو يرسم طريق الخروج من هذه الهشاشة على المدى المتوسط.
المعضلة التونسية التي ثبتت في قانوني مالية 2023 و2024 هي استمرار الخلل الهيكلي في بنية الاقتصاد التونسي وانعكاس ذلك مباشرة على النمو والذي لا يمكن ان يتحقق دون إعادة تشغيل محركاته الرئيسية، الاستثمار والاستهلاك والتصدير بهدف الوصول الى نسبة نمو بـ 6 % يمكنها ان تساعد على تعافي الاقتصاد التونسي وخلق حركية اقتصادية تسمح تدريجيا بالخروج من منطقة النمو الهش.
هذه المنطقة التي بتنا أسرى لها لم تجد نصيبا لها في قانون مالية 2024 الذي لم يتضمن اية مؤشرات سواء أكانت إجراءات او اعتمادات او قوانين تسمح بقطع اول خطوة في طريق التعافي، ناهيك عن مخصصات الاستثمار العمومي الضعيفة (اذا افترضنا ان الحكومة ستلتزم بانفاقها في هذا الباب) والتي لا يمكنها ان تكسر حالة الهشاشة.
فالوضع الراهن للاقتصاد التونسي، بالعودة الى حققته قطاعاته من نمو، يكشف عن أن كسر هذه الحلقة المغلقة وحتى تحقيق نسبة النمو المفترضة 2.1 في قانون المالية او %3 وفق ما أعلنه رئيس الحكومة، غير ممكن ما لم يشهد القطاعان طفرة في النمو، وهذا غير ممكن دون تدخل الدولة وضخها لاستثمارات هامة فيهما.
أحد هذين القطاعين التي يمكن للدولة ان تتحكم فيه نسبيا، مقارنة بقطاع الفلاحة، هو قطاع الصناعات غير المعملية، التي تعنى بالأساس الصناعات الاستخراجية (بالاساس النفط والفسفاط)، ذلك ان النمو السلبي الحاصل في هذا القطاع يعود إلى اشكاليات أبرزها تراجع نسق انتاج الفسفاط وذلك بسبب التحركات الاحتجاجية الاجتماعية كذلك اهتراء آلات الإنتاج والاستخراج التي لا تسمح حالتها بتحقيق أرقام ذات مردودية، كذلك قطاع النفط الذي يعاني من تراجع في عدد الآبار المستغلة وانخفاض عدد رخص الاستكشاف والتنقيب. قطاعان يحتاجان إلى استثمارات ضخمة لاستعادة نسق الإنتاج فيهما بما يسمح بتحقيق نمو ايجابي، وذلك ما غاب كليا في قانون المالية وفي الخطاب الرسمي.
هذا بالإضافة الى ما تعانيه بقية القطاعات الاقتصادية الأخرى من مثبطات النمو وعدم بلوغها سقف النمو الافتراضي لها وفق هذا المنوال التنموي المنتهج منذ عقود والذي بلغ أقصاه بما لا يمكن بتحقيق اي نمو ما لم تتم مراجعة المعطيات الأساسية في «ممكن النمو» أي العودة إلى محركات النمو وإعادة النظر في كيفية تحقيق إنتاجية العمل وإنتاجية العوامل وتكثيف القيمة المضافة بهدف تعزيز الإنتاج الكلي وخلق الثروة.