صبيحة يوم الجمعة الفارط كانت كل المؤشرات تدل على انه «دخل المعركة خاسرا» رغم كل ما يبديه من غطرسة وقوة وما يمارسه من جرائم حرب وابادة جماعية وتهجير قسري للفلسطنين برعاية امريكية ودعم عسكري وسياسي يهدف الى ازاحة حماس من المشهد.
وبرز بشكل جلي في الجولة الثانية من الحرب على قطاع غزة ان الاحتلال يواجه جملة من الازمات يحاول ان يتغلب عليها بتصعيد وحشية آلته العسكرية التي باتت اليوم وبشكل جلي تعمل وفق هدف وحيد وهو تهجير الفلسطنين من عدة مناطق في قطاع غزة لخلق ما نسميه منطقة عازلة أمنية.
هدف كشفته غارات الاحتلال وقصفه الذي يستهدف المدنين وكل المرافق الاساسية في غزة التي ارتقى من اهلها اكثر من 15 ألف شهيد، فيما اصيب اكثر من 40 ألف شخص آخرين طوال ايام الحرب التي اقتربت من انهاء شهرها الثاني على وقائع الجولة الثانية من الحرب التي يمكن ان يكون عنوانها الاساسي هوس الاحتلال بسياسة الارض المحروقة نظرا لعجزه عن تحقيق اي مكسب سياسي او عسكري في الجولة الاولى.
هذا الخيار التدميري القائم على ابادة الانسان والاشياء بهدف تحقيق اكبر قدر من التدمير والقتل غايته انقاذ كيان الاحتلال من التآكل السياسي والعسكري الذي بات يبرز للعيان في الصراع المحتدم بين اعضاء حكومة الاحتلال ورئيسها، وهو ما تجسد يوم السبت الفارط في الندوتين الصحفييتين اللتين عقدهما رئيس الوزراء ووزير الدفاع كل على حده.
خلاف سياسي في اولى ايام الجولة الثانية من الحرب يكشف عن عمق ازمة الاحتلال وحجم الورطة التي وجد فيها نفسه بعد اعلانه الحرب على غزة، شعبا ومقاومة، اذ فقد فيها تعاطف الراي العام الغربي حتى وان كان لازال يتمتع بدعم الحكومات التي وجدت نفسها متورطة ايضا مع الاحتلال حد النخاع لا فقط في حربه بل في محاولة فرض مسار ما بعد الحرب.
هنا تكمن خسارة الاحتلال وداعميه، فرهان الطرفين هو الضغط على المقاومة لاجبارها على اطلاق سراح الاسرى من جنود العدو لديها والذهاب الى مسار تفاوضي سياسي ينتهى اما بمغادرتها القطاع كما حدث مع منظمة التحرير الفلسطينية في بيروت 1982 او بتجريدها من كل قدراتها العسكرية وتدمير بنتيتها التحتية، وهما رهانان يدرك الاحتلال وداعموه ان تحقيقهما غير ممكن وأن ثمنهما باهض، انسانيا وسياسيا.
فالمقاومة التي كشفت خلال الجولة الثانية عن مدى جاهزيتها وتنوع عتادها العسكري واستراتيجيات قتالها اضافة الى ما يتمتع به المقاومون من روح معنوية عالية ساعدتهم على القتال بكفاءة افضل من جيش الاحتلال الذي كان على الارض أهدافا سهلة، كل هذه العناصر تجعل المقاومة تتمتع بأفضلية كبرى في ادارة الحرب خاصة وانها اليوم ورغم عدد الشهداء وحجم الدمار تتمتع بحاضنة شعبية غير مسبوقة، كشفت عن نفسها في ايام الهدنة وفي احتفاء الفلسطينيين -رغم ما فقدوه من اهل وممتلكات- بالمقاومين في مواقع تسليم الاسرى للصليب الاحمر.
التفاف شعبي وتنسيق على مستويات عالية بين فصائل المقاومة ذات المعرفة الأفضل بالارض والميدان عاملان اجبرا الاحتلال على اللجوء الى ردود الأفعال الانتقامية التي تسعى الى القتل والتدمير مما عجّل بخسارة الاحتلال، اذ مع ارتفاع عدد الشهداء والمصابين يخسر الكيان الصهيوني سياسيا واقتصاديا، وذلك ما يبرز -ولو بصفة محتشمة- في تصريحات المسؤولين الغربيين الداعمين له، ومن بينهم وزير الدفاع الامريكي لويد أوستن الذي شدد يوم امس على ان بلاده حتى وان كانت تدعم حرب الاحتلال الا انها تحذره من ان «استهداف المدنين في الحرب خسارة استراتيجية».
فالولايات المتحدة حتى وان كانت تردد شعارات الاحتلال واهدافه المعلنة من الحرب، كتحرير الاسرى وتدمير حماس، تدرك ان حرب الابادة التي تباركها لن تحقق هذين الهدفين، الا أنها تراهن على انهما قد يحسنان من شروط التفاوض مع المقاومة في ملف الاسرى ومبادلتهم كذلك في المسار السياسي المرتقب بعد الحرب.
فهذه الحرب مختلفة عن كل الحروب التي اعلنها الاحتلال على قطاع غزة، إذ هي حرب تهدف الى ترسيخ وضع سياسي جديد وهذا غير ممكن اليوم دون حركة حماس وهو ما يعلمه الجميع ولكنهم يبحثون عن دفع الحركة الى تقديم اكبر قدر من التنازل لفائدة الاحتلال مما يعني ان الداعمين للاحتلال يديرون ملف الحرب وهم محملون بهاجس مختلف عن الاحتلال الذي يتحرك اليوم وفق هواجس شخصية لقادته وحزبية وحكومية متناقضة تجعل منه غير قادر على ادارتها عسكريا وسياسيا.
اليوم يبرز جليا ان الاحتلال خسر حربه وأن ما تبقى له هو كيفية مغادرتها، إما بنصر وهنا النصر الوحيد هو تهجير قسري للفلسطينين وهذا يعني حرب اقليمية، او باشباع رغبة الانتقام لديه وتحمل تداعيات هذا الخيار.