• كيف كانت فعاليات تظاهرة «مدن الفنون» التي افتتحها وزير الشؤون الثقافية؟
«ركح الإكليل» كان عرضا يحتفي بموسم الإكليل الذي خنقته الألغام في جبل سمّامة فاختفى لأول مرّة منذ نـُصب الجبل وعمّره الرّعاة لكن عطره ظل هناك... احتوى العرض نشيد «رسالة الجبال» وهو النشيد الثقافي للجبال و لوحات لفريق البريك دانس «غار بويز» (شباب المغارة) ومشاركة المغّنين الرّعاة «أصوات سمّامة». وهي كلها فقرات من إبداع سكّان ريف الوسّاعية من الأطفال إلى الشبّان والكهول والشيوخ فالفنّ ينبت في الجبل كالصنوبر والعرعار.
الجبال التونسية ملغّمة بالفن والإبداع ونحن نتحاشى الحديث عن الثقافة هناك لان البعض يظن أن سكانها يحتاجون فقط دعما مادّيا مباشرا ومعونات مالية وعينية لمواجهة الفقر والخصاصة والجفاف.. لكن الأطفال والشبان وحتى الكهول والشيوخ لهم ميولات ثقافية وإبداعات لا يجب أن تردمها أرزاء الدّهر وحتى إن كان الإقبال محتشما فدورنا أن نخلق جمهورا للفن هناك.
• ومشروع مسرح الجبل؟
يتمثّل «مسرح الجبل» في زرع مائة ورشة مسرحية في الأرياف والجبال التونسيّة لأجل تأصيل الفعل المسرحي فيها وهي ورشات في التمثيل والإخراج والكتابة تنتج مائة عمل وينبثق عنها مهرجان مسرحي جبلي في ديسمبر بمناسبة اليوم العالمي للجبل ويتواصل عمل هذه الورشات التي سنكوّن لها منشطين من هذه القرى والأرياف القصيّة نفسها حتى نؤمّن الديمومة وسيكونون معلمين او طلبة او عشاقا للفن الرابع والمنشطون أنفسهم سيتلقون تكوينا متواصلا حتى نضمن عملا محترما. في هذه القرى سننشئ مسارح صغيرة نحفرها على الهضاب وتتوسطها اركاح وهي مسارح جبلية تحتضن على مدار السنة احتفاليات القرية فوجود الركح على بساطته يلهم و يشجّع على الصعود و الفعل و الابداع وليكن هذا الركح صخريا أو ترابيا أو حطبيا...المهم ان تكون لنا معالم تذكر بالمسرح في هذه الأرياف...بالمسرح يمكن أن نصفّح جبالنا ضدّ الدمار التكفيري الداهم وعلينا ان نمسك بايادي شبان الريف كي يصعدوا إلى الركح ويرووا هواجسهم عبر نصوص مبتكرة تلامس معيشهم.. اما عندما نكتفي ببرمجة عرض في هذه الأصقاع يأتي صدفة لذر الرماد الثقافي ولتأثيث النشرات بانجازات فنية فلن ننجح إلا في تأجيج العطش...نريد ان تحتفل الجبال التونسية كما يجب باليوم العالمي للمسرح هذه السنة... هو مشروع لمحاصرة الجبال التونسية بالمسرح فتحرير هضابنا ليس مهمّة عسكرية صرفة وإنّما المعركة ثقافية في جوهرها هذا الريف سيصبح مخيفا اذا تواصل نسيانه وقصفه بالمعونات «الإنسانية» في ظاهرها والتي نعامل فيها الريفي المفقّر بحيوانية ناطقة تحت شعار غير معلن «سلّحه بالمقرونة سيكون سعيدا صامتا حتى يرحل»..
وبالتوازي مع الورشات المسرحية سنبرمج عروضا كي يكتمل التمرين وسيتأسس مسرح الجبل على أوتاد علمية معرفية إذ نعد الآن كتيبا بيداغوجيا للمنشطين والناشطين.
• هل وفرتم الدعم اللازم لهذا المشروع الضخم؟
«مسرح الجبل» قدمته في إطار برنامج «مبدعون من أجل الحياة» الذي تسعى وزارة الشؤون الثقافية إلى ضخ دماء جديدة فيه حتى يكون اقرب إلى الإبداع منه إلى المحاكاة وكرنفال «التلفزة جاية»... وأنا بصدد تعديله بالتشاور مع الوزارة والدكتور محمد زين العابدين أبدى إعجابه بالتصوّر وشجعني على الانطلاق في اقرب وقت وهو ما جرى اذ انطلقت بعض الورشات في أرياف غرداية والذواودة وبوفروة هنشير عمرون والوسّاعية وستلتحق البقية مع العودة المدرسية . الانطلاقة برمجناها مع جهات القصرين ونابل والكاف وجندوبة وبنزرت ثم نواصل مع الولايات الأخرى والكتابة الحقيقية للمشروع ستكون على الميدان أي على هضاب هذه الأرياف فلكل قرية روحها التي ستطبع الورشة. وهنا أتوجه من خلال «المغرب» إلى من يريد أن ينضم إلى فريق مسرح الجبل فنحن نريد أن ننفتح على كل الأرياف و الجبال... ولم نغلق قائمة الأرياف المبرمجة ولن نغلقها..
• تبدو متفائلا كثيرا في حين يعمّ الحديث عن الإحباط في البلاد...وعن قلّة الدعم؟
ما لاحظته هو أن أكثر البكّائين هم الذين احتكروا دعم وزارة الثقافة حتى أدمنوه... إنهم المكماكون» والخروف «المكماك» في معجم الرّعاة هو الذي يدمن الرضاعة فيرضع حتى ضرعا لا حليب فيه فيضر به.. وفي معظم الأحيان نرى مليارات ترصد لمشاريع لا تظهر أو لا تستحق بضعة ألاف من الدنانير وذلك في إطار الدعم الوراثي... انا متفائل بالغريزة ولي أصدقاء كثيرون متفائلون وصامدون بمشاريعهم ويدعمون ويضخون الأمل في البلاد وأنا أفضل أن أرى البلاد من خلال هؤلاء وإلا انتحرنا جميعا... ففي القصرين مثلا أرى طاقات جميلة تنسيني مقولات النكبة مثل مقداد الصالحي وعبد القدوس سعداوي وعمارة ذوادي زهير بوعلاقي والناجم الصالحي والقائمة طويلة وهذه البروفيلات هي التي تحمي تونس وهي صمّام الأمان حتى في غياب الدولة.
وضعت تصوّر مسرح الجبل منذ أشهر وشجعتني سنيا مبارك على إثرائه ووضعت في احتمالاتي ا ن يأتي وزير جديد لا يعترف بالفكرة ويرفض الاتفاق السابق «ويرمي الحبل ورا الجبل»... لكن الوزير الجديد دعاني إلى مواصلة العمل دون تردد أو تململ وزيارته الأخيرة إلى جبل سمّامة أكد لنا من خلالها احترامه لمشروعنا الجبلي الشامل... علينا أن «نسبقوا الخير».. ولا يعني ذلك ان نكون سطحيين ... ارى شخصيا ان الجبال التونسية قادرة على رج المشهد الثقافي الوطني وخلق موازنات جديدة تقطع مع استنزاف بورتريهات الريفي مقابل ثمن كيلو سكر ومائة غرام حشيشة حمراء في اعمال تدعمها الدولة بزنابيل الدنانير... وقائمة هؤلاء المخرجين طويلة ومعروفة و»يمين البكوش في صدرو»... ستفعل الجبال التونسية في هذه المحنة ما لم تفعله سابقا عندما كانت تنعم على الأقل بالهدوء ...فهذا الزمن ملائم جدا لفعل ثقافي ملتزم مقاوم وشرس يوجد للثقافة وقارا تحتاجه. متفائل كثيرا، نعم، والتفاؤل موقف وإيمان بانتفاضة ثقافية في جبالنا تكذّب كل التكهنات التي تعشش في الصالونات.
• هل تكفي الزيارات كي تؤسّس لمشهد ثقافي كالذي تتحدث عنه؟
الوزير لم يأت سائحا إلى سمّامة فهو جاء للاطلاع عن كثب على الركح الذي انطلقنا في إنشائه في منطقة جبلية يطمح البعض إلى جعلها وكرا للإرهاب و»ركح الاكليل» هو الذي يحمي «ساحة الفنون». لم يتعوّد أهل الجبل ان يزورهم وزير للثقافة وكأن الريف لا هموم ثقافية له. سمّامة جبل حاضر دائما في الإعلام الوطني والدولي كساحة رئيسية لمواجهة الظلاميين ويجب ان تكتمل هذه المواجهة بجبهة ثقافية تشد المبدع الجبلي إلى هضبته فلا يضطر اجباريا إلى رحلة تشبه النزوح الى المدينة لاجل فرجة فنّية او مشاركة ابداعية . وزيارة رموز الدولة إلى هذه المناطق مهمة وقد تحمل حلولا إذا كانت مدروسة ودعما لمشروع. توجه وزارة الشؤون الثقافية نحو دعم المبادرات الجديدة مهم ونتمنى ألا يحيد هذا التوجه عن مساره في ظل وجود محترفين في ركوب كل شيء.
بالثقافة يمكن ان نجعل جبالنا أكثر انتماء لتونس. وعلينا ان نؤمّنها ثقافيا ونجعل سكانها أكثر إيمانا بالإبداع وهذا لا يأتي صدفة والمسالك الثقافية الجهوية رسمية جدا ومتوارثة تجعل الوزير رهينة لدى السلط الجهوية المضيّفة. وزير الثقافة لم يزر سمّامة صدفة والمسالك الثقافية الجهوية يجب ان تسطّر من جديد وتخرج من المتاحف ومن الصبغة السياحية الترفيهية وإطراب الوزير وركبه خاصة وان الدكتور محمد زين العابدين منسجم مع رؤى ثقافية جديدة وهي فرصة للثقافة الرسمية كي تتحرّر وتقترب من الثقافة البديلة.
لا يجب ان نتحدث عن زيارة الوزير فقط فمعه حضر رئيس الديوان ومدير الشؤون الجهوية اللذان احترمهما كثيرا وأيضا سيماء صمّود رئيسة مصلحة الموسيقى والرّقص وانا احبّ نظرتها العصرية للمشاريع الثقافية وجرأتها ومعها سنطور فنّ الرقص في الجبل ابتداء من مجموعة غار بويز للبريك دانس التي خلقت شعبية كبرى لهذا الفن الحديث في الرّيف وأكدت ان خلق تقاليد ثقافية جديدة ليس إعجازا أو مجازا..
• أنت تبدو متعصّبا للجبال، ألا يبدو هذا انغلاقا على نمط ثقافي واحد؟
الجبل شاسع والتعصب له تعصب للحياة، الظرفية الحالية التي تمر بها الجبال التونسية لا تحتمل التعابير الناعمة والمشاريع الهشّة آو التصورات الانتهازية الظرفية فالجبل يحتاج أملا لا ألما آخر..والمادة الثقافية التي نقدمها في الجبل متنوعة المشارب واللغات فنحن نشتغل على نصوص لافونتان بالفرنسية ودرويش بالعربية وثمة بريك دانس و»قصبة» و»طرْق» وفي هذه النزعة توق لخلق التوازن في مشهدنا الثقافي المنحاز للمدينة بطريقة عمياء رغم أن الحضور الجماهيري كبير في الأرياف، هذا فضلا عن كونه نوعيّا ...هو تعصّب بالأعصاب لا بالعصبيّة.. فعلا انا ارى البحر جبلا ازرق والصحراء جبلا اصفر والسماء جبلا من النجوم ليلا والسحب نهارا.. الجبل ليس فقط نمطا ثقافيا فهو ركح يحتضن كل الفنون وعيد الرعاة يشارك فيه كل سنة فنانون تونسيون وفرنسيون و ايطاليون.. فأين هو الانغلاق؟ ثم انا لا اشتغل على مشروع لجبل واحد فمشروع مسرح الجبل مثلا هو لكل جبالنا من سليمان إلى سجنان حتى خمير وورغة والشعانبي وسمّامة...وجبالنا يمكنها ان تصدم العالم ايجابيا ردا على صدمته أمام المجازر التي هزت هنشير التـلّة وسمّامة ومْغيلة..الجبال الآن هي ميدان المعركة الكبرى.