كان شجن الغروب ورقص الشفق على أطراف النخيل عبارة عن لوحة تشكيلية رسمتها ريشة الطبيعة بألوان من السحر والدهشة. وكان البحر يوشوش في أذن الشمس بأن تغيب ليطلع مكانها القمر ويضفي على المكان شاعرية تفوق الوصف !
لا شك أنّ كل فنان سيزور «مركز الفنون جربة» أو سيكون ضيفا في إقامته الفنية سيعثر على أكثر من مصدر إلهام وسيجد في جمال المكان وصفائه وخصوصيته استفزازا لمخيلته وطاقته حتى تنفجر فنا وإبداعا.
مثقفو تونس يباركون مشروع «الجزيري»
قبل افتتاح «مركز الفنون جربة»، كنّا نتطلع إلى «دار سبستيان»بالحمامات و»قصر البارون رودولف ديرلانجي» بسيدي بوسعيد بإعجاب شديد وامتنان لرجلين أجنبيين افتتنا بجمال تونس فاستقرا بها وشيّدا اثنين من أروع وأشهر وأكبر المراكز الثقافية في بلادنا، وهما: المركز الثقافي الدولي بالحمامات وقصر النجمة الزهراء. أما اليوم فعلينا أن نراجع حساباتنا ونعيد خلط الأوراق بعد أن جاء فنان تونسي الهوية والهوى ليشيّد مركزا ثقافيا في الجنوب، في جزيرة الأحلام جربة. اليوم يحق لنا أن نفتخر بهذا المشروع الثقافي لأنّ مكوناته وميزاته وامتيازاته تفوق قصر النجمة الزهراء ولأنّ طاقة استيعاب مسرحه أكبر من مسرح الحمامات بكثير !
هو مشروع عمر وحلم حياة، وضع فيه الفنان فاضل الجزيري ثروة شخصية تقدّر بـ 30 مليون دينار وربما أكثر من أجل أن يترك من بعده الأثر الشاهد على اسم فنان بحث عن الخلود من بابه الكبير. وليس من الغريب أن يهرع المثقفون والفنانون بالعشرات لمباركة هذا المشروع الرائد والفريد من نوعه على غرار فاضل الجعايبي وجليلة بكار ودرة بوشوشة ومنصف ذويب ولطيفة الأخضر ومراد الصكلي ويونس الفارحي وإكرام عزوز وطاهر الرضواني ومحمد علي بن جمعة ومنير العرقي وآمال حشانة ... والقائمة تطول.
لقد كان «افتتاح مركز الفنون جربة» عبارة عن عرس ثقافي حضرته أعداد غفيرة من أهل الفكر والفن والثقافة والإعلام في تحية تقدير لرجل صنع المستحيل في زمن العجز والركود.
وحتى يكون حدث الافتتاح في حجم هذا المشروع الثقافي الضخم، تم تنظيم معرض للفنان التشكيلي وابن الجزيرة طاهر المڤدميني يتواصل إلى غاية 31 مارس 2023. وقد ضمّ المعرض أكثر من مائة لوحة فنية بإمضاء هذا الفنان العالمي الذي يرسم الإنسان والأحلام في غموض آسر يشبه جربة في إغراء رقصتها المخاتلة ما بين نخل وبحر.
مسرح يتسع لأكثر من 3000 متفرّج
في جنوب شرق جزيرة جربة، يقع «مركز الفنون جربة» بين «ڤلالة» و»سدويكش» في منطقة رطبة تشملها اتفاقية «رمسار» الدولية. ويضمّ هذا المركب الثقافي مسرحا للهواء الطلق يطلّ على البحر و. يمتدّ «مركز الفنون جربة»على مساحة 7 آلاف متر مربّع ويضم حديقة تنسجم مع الغطاء النباتي الموجود بالمنطقة. ويشمل المركب فضاءات مُخصصة للابتكارات الفنية مثل القاعة الكبرى للتمارين تقدر مساحتها بـ 1000 متر مربع، وقاعة للتسجيل، وأخرى للرقص، وثالثة للمسرح. وقد خصّص المركز فضاءات للإقامات الفنية الملهمة والمريحة. وفي اختيار النموذج المعماري لبناء «مركز الفنون جربة» تمّ المزج بين الطرق التقليدية في البناء والتصميم والهندسة المعاصرة.
على هامش الافتتاح الرسمي لـ»مركز الفنون جربة» تجمّع عدد من المحتجين على بناء هذا المشروع فوق أرض مصنفة كمحمية طبيعية إلا أن الفاضل الجزيري أكد أن مشروعه «لن يفسد للود قضية ولن يضر بالبيئة بل على العكس سيكون صديقا للبيئة ومدافعا عنها حيث تضمن المشروع منذ البداية بعدا بيئيا في ما يتعلق بالنباتات والحيوانات وعلى رأسها الطيور، حيث تم وضع برنامج لغرس نباتات متنوعة موجودة من قبل في المنطقة، وأيضا إلى استحداث حركات الأرض (طابية) حسب التقنيات القديمة للمزارعين المحليين.»
وقد أشار صاحب المشروع فاضل الجزيري أنه رفض إنشاء طريقا معبّدا في اتجاه المركز وتمسك بالإبقاء على المكان كما هو حتى لا يشوّه خصوصية المكان. فلا يمكن للفنان في حال من الأحوال أن يكون عدوا للطبيعة وخصما للبيئة !
الأكيد أن «مركز الفنون جربة « قد كسر طوق المركزية الثقافية وأهدى إلى الجنوب التونسي مسرحا ومركزا ثقافيا لن يقتصر على سد الفراغ هناك بل سيوفر مواطن شغل في شتى الاختصاصات. والأهم أن الفنون لن تكون أبدا مصدر تلوث بيئي أو سمعي أو بصري بل على العكس هي السلاح المشهر في وجه كل قبح وشر من أجل نشر ثقافة الجمال والعدالة والتسامح في كل الأزمان والأوطان.
افتتاح «مركز الفنون جربة» للفاضل الجزيري: مشروع تونسي يتفوّق على «قصر النجمة الزهراء» و«دار سيبستيان» !
- بقلم ليلى بورقعة
- 10:15 12/11/2022
- 1456 عدد المشاهدات
كان الطريق إلى «مركز الفنون جربة» يشبه رحلة المتصوفة في بحثهم عن أرض «بكر» للانعزال والتأمل. لا شيء يفسد هدوء المكان، لا بشر ولا ضجيج ولا صخب...