في شغف لا ينتهي، لا يزال الفنان المهووس بالتجريب يبحث وراء «الجدار الخامس»عن نافذة جديدة ليرى منها ما لا نرى ! يقتفي أنور الشعافي نور التجديد عند الضحى والدُجى وحسبه أن يرسم وجه مسرحية لا تشبه ما سبقها وأن يقطف نجمة من سماء الإبداع لم يصل إليها غيره !
هي ثلاثة عقود وأكثر قضاها أنور الشعافي في ترويض الركح تعبا وأرقا وعرقا حتى يكون طيعا بين يديه في تشكيل عجينة فريدة التركيبة، لا تستعين بوصفة أسلاف المسرح الجاهزة ولا تستخدم مكونات الخشبة الكلاسيكية.
المسرحي المهووس بالتجديد
اختار أنور الشعافي المسرح مهنة وهوية وهوى... ومضى في غرامه بالمسرح دون هوادة حتى قضى كل حياته متعلما ومعلما دون رأفة على نفسه وصحته وكأن لسان حاله يقول في ولعه بالمسرح كما قال أبو نواس »في حبه للخمرة:« دع عنك لومي فإِن اللوم إِغراء وداوني بالتي كانت هي الداء ».
بعد سنوات نذرها للفن دون حساب وبعد عقود من العطاء بلا حدود، استحق أنور الشعافي التكريم في تونس وخارجها... مؤخرا جاء التكريم من مصر في تحية تقدير واعتراف بمسيرة ثرية ومختلفة لرجل نحت اسمه بحروف من ذهب على خشبة التجريب . في افتتاح مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي في دورته 29 صفق الجمهور طويلا لتكريم أنور الشعافي على كامل مسيرته الفنية تأسيسا وإبداعا، بحثا وتأصيلا... وقد كانت سعادة أنور الشعافي مضاعفة لتكريمه في القاهرة قائلا: «إنّ هذا التشريف يتضاعف في دورة تحمل إسم الكبير « بيتر بروك» ومحورها «التجريب المسرحي والتطوّر التكنولوجي». وهو ما إختبرته في جلّ أعمالي».
منذ الطفولة، افتتن أنور الشعافي بالمسرح، وكلما كبُر عمره إلا وكبر الهيام بالمسرح معه. وقد انطلقت مسيرته المسرحية سنة 1988 بتخرجه من المعهد العالي للفن المسرحي بتونس ليقترن اسمه بالتجديد ورفض السائد والمألوف. في تجربة رائدة أسس فرقة مسرح التجريب بمدنين سنة 1889. وقام ببعث المهرجان الوطني لمسرح التجريب سنة 1992. كان أول مدير مؤسس لمركز الفنون الركحية والدرامية بمدنين سنة 2011. تقلد أنور الشعافي منصب مدير عام لمؤسسة المسرح الوطني من 2011 إلى 2014.
في رصيده أكثر من 20 مسرحية اشتهرت بمنحاها التجريبي بالخصوص ومن آخر هذه المسرحيات»كابوس اينشتاين »عن نص لكمال العيادي (الكينغ).
وعلى ركح « كابوس اينشتاين» ضاق الزمن على المخرج والبطل اينشتاين، فاخترعا آلة للسفر في مدى السنين حتى وإن سارت هذه الآلة عكس منطق الزمن وعادت إلى الوراء فإنّ المتعة كانت أكبر في اكتشاف بيئة لم نعرفها إلا من خلال الكتب والأشعار و مراجع التاريخ. وفي مزج طريف وذكي- قد لا يمتلك مفاتيحه إلا المخرج الشعافي - كان اللقاء الفريد من نوعه بين عصر الجاهلية وزمن الحداثة، بين ثقافة القبيلة وثقافة الفيس بوك ، بين العالم ألبرت اينشتاين والممثلة مارلين مونرو ... والجميل أن هذا الالتقاء على ركح واحد بين ثنائيات من المتناقضات أو حتى المستحيلات لم ينتج عنه نشازا أو نفورا بل أثمر إيقاعا محدثا وعزفا رائقا على قيثارة التجديد.
الناقد صاحب الثقافة الموسوعية
لا يكتفي أنور الشعافي بما وراء الكواليس مخرجا وصانعا للفرجة المسرحية، بل هو نشط الحضور في العروض الأولى لإبداعات الفن الرابع وفي التظاهرات الثقافية الكبرى. في قاعات العرض يجلس صاحبنا مبتسما ومرّحبا بكل من يلقي عليه التحية في تواضع وود وصفاء سريرة حتى إلى من أساء إليه. في انتباه يشاهد أنور الشعافي العروض بعين المتفرج وعقل المخرج. وبعد العرض، يسيل حبر قلمه في رشاقة لفظ وتشويق أسلوب من خلال قراءة للمسرحية التي شاهدها وأعاد تركيبها وبنائها في متعة سرد ووصف ونقد... وهو ما يجعل القارئ يرى العرض من زاوية جديدة تفتح الأفق الرحب للخيال والتأويل.
وراء كل سطر يكتبه أنور الشعافي في سبر أغوار المسرح والفن أو في تعليقه على الأحداث العامة نكتشف في كل مرة مثقفا عميقا في فكره ومختلفا في طرحه بفضل ثقافته الموسوعية وكثرة اطلاعه على أمهات الكتب وأحدث المؤلفات وتمكنه من توظيف المصطلحات الصحيحة في مكانها المناسب. فإن كتب أمتع، وإن نقد أقنع، وإن رمى بحجر في النهر الساكن لابد أن يحدث ضجة وثورة في المواقف والعقول.
هو المسرحي النبيل الذي سافر إلى مدن العالم طلبا للمعرفة والثقافة قصد التعرف عن كثب على أكبر المرجعيات المسرحية والاطلاع عن قرب على مدارس الفن الرابع. وكان هاجسه في ذلك اقتراح مشروع فني وجمالي ينشد التجديد ويفتش عن التجريب حتى يؤسس للمسرح النبيل ويمتلك صفة المسرحي النبيل والذي يعرفه بالقول:» إنه ذاك المسرحي المتمكن من عمله، والحرفي في مهنته، والمحترم لأخلاقيات المهنة، والمنضبط بالطقوس المسرحية، والمنتصر للقضايا الجادة والعميقة... وطبعا الرافع للواء الطرافة والتجديد».
يمقت أنور الشعافي التشابه بين الفنانين، ويرفض تكرار كبار المسرحيين لأنفسهم وتمسك الجيل الجديد بجلباب السابقين. ويدعو إلى التسلح بروح المغامرة وحتى وإن كانت النتيجة منقوصة فيكفي شرف المحاولة.
يصعب حصر مسيرة «أولا تكون» و»ترى ما رأيت» و»هوامش على شريط الذاكرة» وغيرها... في كلمات أو حتى صفحات ! إنها مسيرة وهبها أنور الشعافي الصحة والشباب وكل فصول العمر ليكتب قصة فنان كبير أعطى المسرح الكثير من الحلم والأمل لم يبق لنفسه سوى لذة الاحتراق من أجل إنارة الطريق أمام كل من يستهويه التجديد على ركح التجريب.
بورتريه: الفنان أنور الشعافي: المسرح عنده «تجريب» أو لا يكون !
- بقلم ليلى بورقعة
- 10:26 07/09/2022
- 1372 عدد المشاهدات
في عشق المسرح أفنى أنور الشعافي العمر، ولا يزال في أعماق الفن الرابع يبحر كالنهر الجارف الذي لا يقبل العودة إلى الوراء.