ولطالما قُدِّم هذا المفهوم أيضا لتكييف هذه الحقوق والحريات في شكل تطلّعات وانتظارات وفرص متجانسة وغير متجانسة، على أن تكون الدولة بمختلف مؤسساتها ونواميسها وعقودها الإجتماعية والتربوية هي الضامن الأوّل وليس الوحيد لتكريس هذه السياسات المجتمعيّة والعمل على تنفيذها وتنزيلها، ضمنيّا وعلنيّا، نصّا وتطبيقا، ثقافة وقانونا على أرض الواقع لتحقيق هذه العدالة بين الجنسين بوصفهما متساويين في الحقوق والواجبات، سواسية في القانون وأمامه !
ولئن كانت البلدان الإسكندينافية سبّاقة في مجال المساواة بين الجنسين بإعتباره مفهوما كونيّا، إلاّ أن هذا الأخير سرعان ما انتشر في سائر المجتمعات الغربيّة قبل أن تنخرط سائر دول العالم فيه ليصبح هدفا معلنا وساميا يسعى الجميع لتحقيقه، وعلل الرغم من قِدَمِهِ ومن شبه الإجماع الحاصل حوله، إلاّ أن المساواة الفعليّة لازالت لم تتحقّق إلى يوم الناس هذا، فهو مفهوم متعدّد الأبعاد يستوجب تنزيله على الواقع إستراتيجية شاملة يلعب فيها كلّ متدخّل دوره، ويكفي أن يخلّ أحد المسؤولين بالمسؤولية المناطة بعهدته ليحصل إنخرام في مسار المساواة.
إنّ بعض الباحثين في مجال المساواة بين الجنسين يعتبرون أنّ الفشل في تحقيق كلّ مقاصد هذا المفهوم الكونيّ مردّه إنعدام التوافق حول مضامين المساواة ومجالاتها، في حين يعتبر البعض الآخر أنّ تنزيل هذا المفهوم مرتبط بمدى إحترام مراحل المسار المنبثق عنه، فلا يمكن تحقيق المساواة بين الجنسين إذا ما كانت التشريعات لا تحترم هذا المبدأ، ولا يمكن الحديث عن المساواة في فرص التمكين الإقتصادية والإجتماعية اذا كان العمل حكرا على جنس دون الآخر..
ان وضعيّة المساواة بين الجنسين في تونس لازالت تشهد العديد من الصعوبات والعراقيل، فمشاركة المرأة في الحياة الإقتصادية لا يكاد يتجاوز 28 %، وكذلك هو الحال في ما يتعلق بولوج هذه الأخيرة الى مواقع القرار السياسي سواء على المستوى الوطني او المحلي. لا تزال ميزان المساواة كذلك مختلّا فيما يتعلق بموضوع التأجير بنسبة تقدّر بـ 30 %، وأمّا عن وضعية المرأة في الوسط الريفي فحدّث عنها ولا حرج، فهي تعيش في وضعيّة إجتماعية وإقتصادية هشّة وتقبع جلّها أو كلّها تحت خطّ الفقر والخصاصة ولا تتمتّع بأدنى مقوّمات العيش الكريم بل تخضع للعنف الزوجيّ وهي مهدّدة على الدوام في حرمتها الجسديّة. وعلى الرغم من وجود الأطر القانونية والتشريعية التي توفّر لها الحماية إلاّ أن هياكل الدولة ومؤسساتها وكذلك الثقافة المجتمعيّة وما يسمّى بـ «العادات والتقاليد» تجعل من المرأة الحلقة الأضعف في هذا المجال وتسند لها مهمة القيام بشؤون البيت وتربية الأطفال والإعتناء بالزوج الذي يعتبر «فطريّا» أعلى درجة منها وهو الوحيد المخوّل للعمل والولوج الى سوق الشغل والى بقية مرافق الحياة العامة.
ولئن تمكّنت المرأة التونسية من تحقيق بعض المكاسب الهامّة والتي لا ينبغي التراجع عنها، وفي مقدّمتها مجلة الأحوال الشخصية التي تمّ سنّها بعد 05 أشهر من الإستقلال، إلاّ أنّ الفكر الدفين والمستبطن لعلوية الرجل لا يزال سائدا وراسخا عند الأغلبية الساحقة للمجتمع، رجالا كانوا أو نساءً، وينبغي على الدولة أوّلا وعلى كلّ القوى المجتمعيّة الحيّة ثانيا استبداله بمقاربة سوسيولوجيّة وثقافيّة تهدف أساسا إلى القضاء على «التمييز الاجتماعي بين الجنسين» وذلك عبر فكّ الإرتباط بين الجنسين بما يجعل كلّ واحد منهما فرادا كامل الحقوق والحريات والقطع نهائيّا مع فكرة التكامل (المرأة مكمّلة للرجل) التي تحرم المرأة من التمتّع بحقوقها الطبيعية بوصفها عنصرا فاعلا شأنها في ذلك شأن الرجل.
إنّ التقدّم التي حقّقته المرأة التونسية في المجال الدراسي التربوي وأيضا في الحياة المهنيّة لم يغيّر من واقعها الاجتماعي شيئا، حيث أنّ البنات يواصلن إختيار نفس الشعب الدراسية وإمتهان المهن التي كانت تمتنها النساء المنتميات للأجيال السابقة، وفي ذلك دليل على «صمود» التمييز والتفريق بين الجنسين و «رسوخ» ثقافة الإختيارات القائمة على الجنس في الشعب الدراسية وفي الشغل والمهن.
بعض علماء الإجتماع يصف هذه الوضعية التي تعيشها المرأة في العديد من المجتمعات القائمة على العادات والتقاليد بـ «الوراثة الإجتماعية الدائمة»، وعلل الرغم من أنّ مجال التعليم والمجال المهني يشهدان تحوّلا ديمقراطيّا غير مسبوق إلاّ أنّ الإختيارات (سواء الدراسية او المهنية) بقيت رهينة التقاليد التي تفرض على المرأة شعبة دراسية تتماشى مع ما تمليه النظرة المجتمعيّة لها، وبالتالي تجعلها حبيسة مجال مهنيّ يخضع لتلك الخيارات التي تخضع بدورها لرقابة ضمنيّة مسبقة غير معلنة ولكنّها «بديهيّة».
هنالك شكل من أشكال التمييز بين الجنسين يمكن اعتباره تمييزا أفقيّا، وهو يتضمّن مجموعة من المهن الخاضعة لمبدإ الجنس (مجال التمريض للنساء والهندسة للرجال، مصانع النسيج للنساء والبنوك للرجال.الخ). وهنالك أيضا شكل من أشكال التمييز القطاعيّ الذي يؤكّد ويدعم فكرة التمييز العموديّ والذي يعطي الفرصة للتقدّم والتطوّر في الوظيفة لجنس دون آخر، وعامّة ما تكون المرأة هي التي تحرم من حقّها في مسارها المهني او الوظيفي، كلّ ذلك فضلا عن الممارسات التي لا يمكن إنكار وجودها في فرص الشغل، حيث ان المشغّل يفرض قواعد وشروط مسبقة وتعجيزيّة في بعض الحالات حتّى يجعل بعض المهن حكرا على الرجال دون النساء، وقد ترتبط هذه الشروط بالمسار الدراسيّ الذي سبق وتعرّضنا اليه آنفا والذي يكرّس التمييز منذ المراحل الدراسية الأولى ليكون له وقع على الخيارات المهنيّة اللاحقة.
فالمرأة تعتبر أقلّ كفاءة في مجال الرياضيات والعلوم الصحيحة، وتضطرّ إلى إختيار شعب دراسية تجعلها غير مؤهّلة لنيل عروض شغل ذات تأجير محترم، وتجد نفسها مجبرة على العمل في مواقع ووظائف هشّة حيث يكون التأجير ضعيفا والعمل مضنيا وظروف العمل مهينة، ومردّ كلّ ذلك هي الخيارات القائمة على الجنس منذ الدراسة.
ويبقى السؤال المطروح، كيف يمكن أن نحدّ من هذا التمييز ؟ كيف السبيل إلى دحضه ومناهضته بطريقة هيكليّة وجذريّة ؟
في إنتظار «تغيير للعقليّة وللفكر السائد» التي قد تأتي وقد لا تأتي، ينبغي العمل على وضع كل الآليات الكفيلة بتوفير التنوّع في التوجّه الدراسيّ والتكوينيّ للعنصر النسائيّ، وفرض شروط على المؤسسات حتّى تستبطن فكرة الفرق المختلطة وتمرّ من منطق الجنس إلى منطق الكفاءة.
لابدّ من المثابرة والإصرار، فوحده التنوّع سواء كان إراديّا أو مفروضا عبر آليات الحصص النسبيّة كفيل بمناهضة وكسر كلّ الأحكام المسبقة والعادات الرجعيّة التي تجعل المرأة عنصرا مكمّلا للرجل ومواطنا درجة ثانية في مجتمعنا.
كل عام ونساء تونس بخير، كل عام ونساء العالم بخير !
بقلم هالة
بن يوسف