فهي وأن تكتب القصة الواقعية في أغلب الأحيان فإننا نجد في قصصها أحيانا الأسطورة والخيال الذي يختلط فيه الحلم بالواقع. كذلك هي ناقدة أدبية ولها حراك متميز في الساحة الثقافية ببنعروس من خلال إدارتها لنواد أدبية. مع الناقدة والقاصة هيام الفرشيشي كان لنا الحوار التالي:
• في البداية كيف تعرفين القارئ بهيام الفرشيشي الانسانة والكاتبة؟
هيام الفرشيشي قاصة وناقدة تونسية شغوفة بالكتابة ومواكبة للإبداع الأدبي قراءة ونقدا. الكتابة بالنسبة إليها حاجة أساسية تكمل بها وجودها وترسم من خلالها بعدها الثاني. فهي ترى أن التعبير عن الذات يبرز ملامح شخصيتها وأفكارها ورؤاها، بل يجسد نبرة صوتها الخاصة في المجتمع، كما ينحت بصمتها المتفردة في عالم الكتابة الإبداعية. وهيام الفرشيشي في الحياة كائن بسيط لا يعيش في برج عاجي بل يتفاعل مع الناس بكل أطيافهم وشرائحهم ..كما تغويها الثقافات المحلية العالمية المتنوعة بكل خصوصياتها تثري معرفتها وتفتح آفاق خبراتها..
• ما الذي يمكن أن نعرفه عن رصيدك من الإصدارات؟
صدرت لي مجموعتان قصصيتان: «المشهد والظل» الحائزة على جائزة زبيدة بشير للإبداع الأدبي في مارس 2011، و»أوشام سرية» صدرت في 2015 وترجمت بعض نصوصها للانجليزية في مجلات عالمية أكاديمية بأمريكا وأستراليا وبريطانيا. وفي النقد صدر لي كتابان:
«اوركسترا الشاعر» في 2004 و»الرواية لدى الناصر التومي شهادة على العصر» في 2018. ولي كتب في طريق النشر تتراوح بين الرواية والنصوص القصصية والدراسات النقدية.
• كيف جاءت هيام الفرشيشي إلى عالم الأدب ؟
لم آت صدفة إلى عالم الأدب، فقد كانت الحكايات والقصص تزدحم في ذهني منذ الطفولة في كل الفضاءات التي تنقلت فيها في المدن وفي القرى والأماكن الجبلية والأثرية. كان صوت الأمواج التي ترتطم على الصخر يحاكي إيقاع هذه الحكايات، وكانت روائح الأرض بعد المطر وفي الريف تحيي في الرغبة في الكتابة.. كنت أصغي إلى أصوات الطبيعة تضج بالأصوات السيكولوجية التي تتحول إلى لغة إنسانية، تباغتني حالة من الدهشة أمام هطول المطر. كما أجد في تراث الفن الصوفي في المدينة ما يشحنني بالنشوة الغامضة. في طفولتي كنت شغوفة بقراءة القصص التي لا تنتهي أحداثها في ذهني، لأنني أضيف إليها أحداثا جديدة، أصغي إلى خرافات جدتي ويتيه خيالي بحثا عن تفاصيل أخرى، وفي ليالي الشتاء التي ينقطع فيها التيار الكهربائي يسرد لنا والدي الكثير من الحكايات الشعبية والخرافات على ضوء الشموع فتتضخم الشخصيات كخيالاتنا على جدران الغرفة.. أثناء الدراسة الثانوية بدأت رحلتي مع المطالعة واكتشاف الأدب التونسي والعربي والعالمي في المكتبات..إلا أن قراءاتي لم تقتصر على الأدب بل على الكتب الفكرية والدراسات المتخصصة في النظريات الجمالية والفنية والحضارية التي كنت أقتنيها من معرض الكتاب، فكانت قراءاتي بمثابة النوافذ التي عمقت معرفتي الخاصة بتجليات الفكر والابداع. كانت كتاباتي الأولى شعرية، وحين انتقلت للدراسة كنت أجد في المبيت بعض الوقت في حصص المراجعة الطويلة في الصباح الباكر وبعد منتصف النهار ومساء ما أشغله في كتابة القصص والخواطر والتأملات..وكان أول فضاء أدبي قرأت فيه نصوصي القصصية وأنا طالبة هو نادي القصة بالوردية، وقد أخذتني إليه الأديبة فاطمة سليم رحمها الله حين قرأت نصوصي وقدمتني للأديب محمد العروسي المطوي تغمده الله برحمته والذي وجدت منه ترحيبا وقتها، وكان الأديب أحمد ممو من الأدباء الذين شجعوني على كتابة القصة ولكن انطلاقا من الاستفادة من النقد والتعديل، حيث كان نادي القصة ورشة نقدية جادة. فاستفدت كثيرا من ملاحظات الأدباء والنقاد، وأذكر وقتها أن الأديب رضوان الكوني أعجب بلغتي. ولا أنسى من نشروا لي وقتها ودعموني مثل الدكتور عبد الرزاق الحمامي، والشاعر والصحفي يوسف رزوقة، وسمير بن علي في إذاعة الشباب في برنامج «كيف ترى النهاية» وهو برنامج يهتم بالقصة، والدكتور منجي الشملي في «أدب الشباب» بالاذاعة الوطنية ورياض يعيش في إذاعة صفاقس، وعامر بوعزة في إذاعة المنستير، وآدم فتحي في «رواق الكتب» بالتلفزة الوطنية والصحفي القدير مختار الدبابي، وفي ما بعد دعمتني مجموعة من مهمة من الصحفيين مثل عبد السلام لصيلع وشكري الباصومي ومحمد الهادي الجزيري ومحمد المي ونورالدين بالطيب وكانت البداية مشجعة حقيقة لأنني وجدت التأطير والاهتمام. ثم اهتمت بكتاباتي مجموعة مهمة من النقاد التونسيين والعرب والأمريكيين.
• في أقاصيصك ما أهم القضايا التي تناولتيها؟
كنت ملتصقة في أقاصيصي بالواقع التونسي قبل الثورة وبعدها، ففي مجموعتي القصصية الأولى «المشهد والظل» الصادرة في أواخر 2010 ونشرت أقاصيصها في مجلات تونسية وعربية قبل ذلك استعملت تقنية الظل لتناول المواضيع المعتمة مثل ارتباط التقارير الصحفية بلوبيات ترسم المشهد العام، تحدثت عن أزمة المثقف ووضعية الفنان، عن تهديد أصحاب الأفكار الحرة، عن معاناة المرأة رغم قشور المدنية وتقنين حقوقها، إلا أنني لم أبرز الواقع بصورة مباشرة بل من خلال شخصيات اشكالية وتحركها في فضاءات متعددة واقعية وذهنية وطبيعية وامتزاج الوعي باللاوعي لتصوير عوالمها. فكان الواقع المتخيل استعارة للواقع الحقيقي وتبني هموم نخبه والشخصيات المهمشة وتعرضها للظلم والاضطهاد والترهيب. في مجموعتي القصصية الثانية «أوشام سرية» الصادرة في 2015 تناولت الواقع الجديد وما طرأ عليه من عنف وإقصاء واغتيالات وجرائم دموية بشعة ومحاولة مسح الذاكرة الوطنية وتغيير نمط الحياة، فاستعملت أقنعة حيوانية مثل الرجل الذئب والمرأة العنكبوت للتعبير عن الواقع الذئبي الجديد وعن شبكات الجريمة المنظمة، كما تحدثت عن خيانة بعض المثقفين لقضاياهم الوطنية إذ تحولوا إلى أقلام للايجار لجهات أجنبية تبيح العنف تحت مسمى الثورية وتعبث بالتراث الوطني، تحدثت عن الواقع الصحفي الذي ازداد رضوخا لرجال أعمال وسياسيين، بحثت عن مراجع وفضاءات من الماضي ترتكز عليها الشخصيات كلما داهمها الواقع الجديد المتوتر، ورغم جدية هذه القضايا إلا أنها تحولت الى محمول رمزي لواقع متخيل يتجاوز الواقع الضيق للتعبير عن هموم وجودية وانسانية، كما يكتشف فيه القارئ أي كان خصوصية ثقافية تتجاوز بعدها الضيق.
• اليوم وبعد ما شهده العالم من متغيرات في جميع المجالات أي قصة نكتب؟
في ظل الثورة التكنولوجية ووسائط التواصل الاجتماعي وثورة المعلومات أي قصة سنكتب؟
هل سنحاكي الإيقاع الجديد ونكتب القصة الومضة بحثا عن صورة مدهشة أو لقطة مباغتة؟
هل سنكتب قصة غير مطمئنة تحاكي الواقع الجديد الذي تلبس شخصياته أقنعة متعددة تخاتل المعنى؟
هل سنكتب كوابيس الواقع الجديد أم شروخ التحولات التي تنفذ إلى العمق وتحوله الى محض فراغ وهياكل خاوية، خربة، مهشمة..أم نتأمل هذا الواقع الجديد ونفككه وننجح في رسم ملامح شخصياته المقنعة ونبحث وراء الوجوه ووراء الأحداث؟
هل سيضاهي السرد القصصي سرديات إعلام الصورة خاصة بكل أساليبه المضللة، أم نتحدى هذا الواقع ونمضي في مراودة اللغة وتشكيل المعنى وشحن الخيال بالتجارب وتجليات الفكر..إن السارد هو المتجذر في مناخات سبر الذات وامتلاك تفكير تصوري عن الواقع، فلا يتعامل معه آليا ولا يكون إبداعه مجرد نتاج للآلة التكنولوجية الضخمة، إن القصة الجديدة تتجاوز الأشكال القديمة ولكنها تتشكل عبر الخلق الفني ورؤية السارد للواقع تصاغ عبر الأشكال المتفردة التي يبدعها القاص ليصور عوالمه.
• أنت كتبت القصة ونلت جائزة الكريديف في 2011 عن مجموعتك القصصية الأولى، ثم كتبت الرواية بعد ذلك. فأيهما الأقرب إليك؟
فعلا كانت انطلاقتي الإبداعية مع القصة التي اعتبرها فنا سرديا صعبا أشبه بالتطريز الذي يأخذ الكثير من التركيز من خلال تصميم أشكال قصصية متعددة، يتميز بتنوع الأحداث وطريقة عرضها، تعدد أنماط القص، طبيعة اللغة من نص إلى آخر، تنوع الفضاءات وخصوصياتها. القصة تستند إلى ذاكرة ثرية وإلى الرؤى التي تلازم المبدع ولا تباغته عرضا أو في حالات خاصة. الصور الحلمية أو الفنية أو الذهنية تشحن الحكي، الرموز الخرافية والأسطورية أو شذرات الحكاية قد تنضوي في جسد القصة عبر التحويل، إلا أن القصة مشغل لا يولد دفعة واحدة بل يمر بمراحل عديدة قبل اكتماله. وعندها تنضوي على شكلها وأسلوبها وتتضح فضاءاتها وشخصياتها، وهي تبرز قدرة القاص على الإلمام بالعلوم الإنسانية والفنون والتراث الحكائي. بالنسبة للرواية هذا النمط السردي الذي يغوي المبدعين من أنماط تعبيرية متعددة يكتسب ميزته من خلال تعدد الأصوات واختراق الشخصيات لفضاءات بعينها، وهي فن تحليل الشخصيات في علاقتها بالآخرين في محيط محدود تفرض عمارة سردية تهندس هذه العلاقات الديناميكية، والرواية في مجملها تطرح سؤالا فكريا أو هاجسا إنسانيا في بيئات تنفتح على الهم الذي يلازم السارد ويمرره لشخصياته. ونلاحظ أن البعض من كتاب الرواية يكررون الهاجس نفسه، والشخصيات نفسها من عمل إلى آخر، فقط تتغير الأسماء أو الفضاءات التي تتحرك فيها، وهذا يدل على أن الرواية ليست أنموذجا ثابتا كما يعتقد البعض وليست تقنيات مقننة حتى وإن انتقلنا إلى تحول الفن إلى صناعة، وهي كما القصة تحتاج إلى تعدد وتنوع الأشكال والأفكار والتقنيات. الرواية بالنسبة إلي هي النمط الذي يذهب إليه القاص بعد اختبار قدرته على الإبداع والتجديد. كانت القصة هي الأقرب ولكن بعدما أنهيت كتابة مجموعتي القصصية الثالثة صارت الرواية تراودني لأعيش معها تجربة أخرى ..
• اليوم هناك ظاهرة جديدة في المجال الثقافي وهي قصيدة الومضة وقصة الومضة، فكيف تقيم هيام الفرشيشي هذه الظاهرة ؟
أنماط الكتابة المختصرة في الأدب والشعر لها ارتباط بالتراث الإبداعي العربي. ففي الأدب نجد الخبر وما يتميز به من الغرابة والسخرية، كما نجد النادرة وهي فن أدبي تخييلي يقوم على الهزل والجد له وظيفة نقدية، والطرفة فن أدبي أيضا تصف موقفا قصيرا بدعابة كما عند الجاحظ والاصفهاني. والشذرة وإن لن تسرد أحداثا مترابطة إلا أنها تخلق دلالة كبرى في النص مثل البيت في القصيد. غير أن الظاهرة الجديدة في كتابة القصة الومضة أوالقصة القصيرة جدا أنها تكتب اليوم على إيقاع قلق متوتر، مقتضبة من حيث المفردات والفضاء الفيزيائي للكتابة، تنطوي المفردات على إيحاء ورمزية والحكي في أسرع ما يمكن. وهي تلمح ولا تصرح فهي أشبه بالغمزة أو الاشارة الى الشيء دون تسميته. وكل مفردة تحمل طاقة لا يستهان بها من القلق والتوتر والاستبطان. لتشتد الذروة القصصية في أسطر. فنيا تصور الحدث بأسلوب مقتضب ساخر في جمل فعلية موجزة تعبر عن لحظة درامية قصوى تنطوي على مخزون مرجعي ثقافي وحضاري. الهدف من كتابتها السخرية والتشكيك وإثارة الأسئلة. وتستغني عادة عن الزمان والمكان. ومن مظاهر التجريب في هذا الفن القصصي الموجز التناص والاستعارة والإدهاش والتأويل والتصوير عبر الأنسنة والتشخيص واستلهام التراث. لتصور هزائم الذات والتمزق النفسي والحضاري. كما تصور هموم الإنسان ومخاوفه.
تحتفي بالعادي والمألوف وتبقى على صلة بالواقع وإضافة دلالات عميقة عند الانتقال إلى الواقع الفني المغاير.
بالنسبة للشعر لو عدنا للمقاطع الشعرية مثل رباعيات الخيام والموشحات والقوما والمثلثات والمربعات والمخمسات والموشحات وتتميز هذه المقاطع الشعرية بوحدة الموضوع.
في العصر الحديث عرفنا الومضات السريعة الخاطفة مع حركة الأدنى بأمريكا. الهايك وتتميز بالتكثيف والاقتصاد في اللغة، ثلاث أبيات والتانكو خمسة أبيات. وهناك من الشعراء العرب من أطلق عليها اسم التوقيع أو البرقية.
بخصوص هذه الأنماط المختصرة تلتقي في عدد محدود من المفردات، لأنها تعتمد على لغة الإيجاز والتكثيف والترميز والحذف كما تتسم بالانزياح والعدول والخلق الجمالي. ميزتها الإدهاش والغرابة.
بخصوص تقييمي لنصوص الومضة أرى أنه لا يجب استسهال الكتابة المختصرة، لأنها كاللمعة ترسخ في الذهن وتترك دهشتها.
• أنت تكتبين النقد الأدبي أيضا، فكيف تقيمين المشهد الأدبي في تونس اليوم؟
تشهد الساحة الثقافية التونسية حراكا لافتا من حيث تراكم الإنتاج الأدبي والتعبير عن اختلاجات الواقع الراهن من خلال مضامين النصوص، وقد لاحظنا وجود موجات أدبية انشغلت بعد الثورة مباشرة بالأدب السياسي وأدب السجون، وانصرف بعض المبدعين لتعديل مشاريع رواياتهم وبث بعض صور التغيرات الاجتماعية والسياسية التي عرفتها تونس آنذاك، فجاءت هذه الأعمال مطعمة بالسياسة كإفراز طبيعي للتغيير الثوري، وظلت هذه الأعمال بمثابة نار خافتة أججتها دور النشر وانقاد إليها البعض طوعا لتمرير موقف نضالي، وقد وقع توظيفها سياسيا للحصول على تعويضات مالية أفلست البلاد. ولم تكن أغلب هذه الأعمال الأدبية مشبعة بالحياة أو بالتجديد على مستوى الشكل إذ كانت نقلية لإدانة نظام ما قبل الثورة، حتى أن الكثير من الأدباء الذين تصدروا المشهد الأدبي النضالي وقتها لم نعد نسمع عنهم أو نقرأ لهم..بعد ذلك برزت أعمال متفرقة تجترح الواقع الكابوسي الذي عرفته تونس من إرهاب واغتيالات وتصفية حسابات وتهديد للحريات وسلوكات عدوانية ضمن خانة «حرب الكل ضد الكل»، فانعكس ذلك على المشهد الأدبي بظهور أدب الكوابيس وأدب الجنون وتضخم الكائنات الأسطورية والأدب العجيب والغريب. أما الشعر فقد ظهرت فيه أصوات جديدة تنحت نصوصها بجمالية فادحة تمعن في تعرية الذات واجتياح الصور المبتكرة، إلا أن هذا لا ينفي ظهور متطفلين على الأدب والشعر تحت مسمى الثورية الزائفة.
حوار : الحبيب بن فضيلة
الكاتبة والناقدة هيام الفرشيشي لـ «المغرب»: ظهور أدب الكوابيس وأدب الجنون... انعكاس للواقع الجديد المتوتر
- بقلم الحبيب بن فضيلة
- 09:21 24/08/2020
- 1155 عدد المشاهدات
تعتبر هيام الفرشيشي من أهم كاتبات القصة في الساحة الثقافية، ففي قصصها نقد للواقع السياسي والاجتماعي بأسلوب رشيق وبلغة متينة