و إذا وجدت فقد وجدت كل حرية و من المستحيل أن نكون أحرار ما لم نكن أحرارا فى تفكيرنا وفى التعبير عنه».
وللأسف، تفشل تونس اليوم أمام اختبار حرية التعبير وتسقط في فخ الإرهاب الفكري في خيانة لتاريخها الطويل في إعلاء راية الحريات واحترام الثقافات انطلاقا من الريادة في إلغاء الرق مرورا بدستور عهد الأمان وصولا إلى كتاب «امرأتنا في الشريعة والمجتمع» للطاهر حداد !
إنّ الحكم على المدونة آمنة الشرقي بالسجن 6 أشهر وبخطية مالية بقيمة ألفي دينار بتهمة «الدعوة والتحريض على الكراهية بين الأديان والأجناس والسكان» يستفزنا للتساؤل المرير : لمَ تتراجع تونس خطوات إلى الوراء وتتنكر لماضيها المجيد وهي التي كانت على مرّ الحضارات وتعاقب الشعوب أرض التسامح والتعايش والحوار بين الأديان كما يتجاور على أرضها المسجد والمعبد والكنيسة في سلام !
لم يكن ذنب آمنة الشرقي المشاركة في عمل إرهابي أو ارتكاب جريمة قتل أو اقتراف جرم اختلاس وسرقة ... بل كانت تهمتها المضحكة، المبكية مجرد مشاركة لـ «سورة الكورونا» الساخرة على صفحتها الخاصة بموقع التواصل الاجتماعي «الفيس بوك» حتى يتمّ استدعاؤها للتحقيق والمحاكمة على جناح السرعة وكأنها القضية الجوهرية وذات الأولوية التي سيتحدد بالفصل فيها مصير البلاد التونسية !
في فصله السادس ينص الدستور التونسي على أنّ «الدولة راعية للدين، كافلة لحرية المعتقد والضمير وممارسة الشعائر الدينية، حامية للمقدسات، ضامنة لحياد المساجد ودور العبادة عن التوظيف الحزبي»، فإنّ هذه الحريات التي يمنحها ويرعاها «أب القوانين» يبدو أنها كانت دون وزن في قضية المدوّنة آمنة الشرقي .
سبق وأن تساءل الباحث وأستاذ التاريخ العربي المعاصر عادل اللطيفي: «لست أدري هل أنّ لشرطتنا ولقضاتنا من الزاد المعرفي بالتراث كي تقيم هذا أو ذاك...القاعدة تبقى فقط حرية التفكير والضمير والتعبير؟»
إن الذين ينصبون المشانق لآمنة الشرقي وحرية التعبير عموما ويؤلبون بعض الدغمائيين والرجعيين لتهديد حياة المخالفين لهم في الرأي والتفكير قد فاتهم أن توفيق الحكيم قد كتب منذ السبعينيات القرن الماضي «رسالة عتاب إلى الله» بالعامية المصرية وبأسلوبه النقدي الساخر، ليقول فيها: عزيزي الله...
عارف أنك موجود وأقرب من حبل الوريد ليا، ومؤمن بعظمتك وعبقريتك ورحمتك، بس عاتب عليك يا سيدي إنك سايب شوية صيع بيتكلموا باسمك ويشوهوا صورتك ، ويسرقوا فلوسنا ويصرفوها عليك ، مع إنك غني وفي إيدك خزاين الكون ، واحنا الفقراء إليك وانت الغني عنا؟» فهل نحاكم اليوم الكاتب توفيق الحكيم من أجل هذه الرسالة الساخرة؟
وإن تفتخر تونس بإنجاب أديب عظيم علمنا أن «الأدب مأساة أو لا يكون»، فهل سيحاكم البعض محمود المسعدي لأنه عارض القرآن في « حدث أبو هريرة قال «وكتب في مسرحية «السد» الخالدة ما يلي : «أعوذ بصاهبّاء من الإنسان الرّجيم...ثمّ إنّا أثرنا في العالمين نقعا، وصفعناها صفعا، وهيّجنا الأكوان تهييجا، وهززناها هزّا، ورججناها رجّا، فوضع الإنسانَ الرّعدُ والصّاعقةُ والبرقُ. وقلنا يا آدم اخرج من ضلع العاصفة الريح والصاعقة الرعد، وكن فيها النور والنار والبرق...صدقت صاهبّاء... سُبِّحت صاهبّاءُ..»
إن من يزّج بآمنة الشرقي اليوم في خانة الاتهام والإجرام بسبب فدلكة «سورة الكورونا» رغم أن معناها نبيل وهي التي تجلّ العلم والطب، قد فاتهم أنه في «سورة أربعين سعد زغلول» قد ورد من بين ورد ما يلي :» يس، والدّستور العظيم ذكر ما أنزل على مصطفى وفريد، وما أوحي إلى الزّعماء من لدن عزيز عليم. قالوا ربّنا هب لنا قوّة، وامددنا بجرائد وأحزاب، وجنّبنا القوم الرّجعيّين...»
هل يملك هؤلاء الجالسيون على كرسي الدفاع عن المقدسات والإسلام القدرة على إخراج «المعرّي» من لحد القبر لمحاكمته على جرأته في كتابة رائعة «رسالة الغفران» وتصويره الجنة والجحيم في سخرية كاريكاتورية؟
هل تقدر محاكم التفتيش للضمائر والنوايا على النبش في رفات الروائي والشاعر الروسي «بوشكين» لشغفه بالقرآن الكريم وإعجابه الشديد به وهو الذي ترجمه في قصيدة طويلة بعنوان «محاكاة القرآن»؟
تتعدد المواضع والاستشهادات ويضيق المجال عن ذكر أمثلة أخرى تؤكد أن محاكاة الشكل القرآني ليست بدعة ولا جريمة بل أسلوبا متداولا منذ العهود الأولى للإسلام يرفع من شأن كتاب الله ولا يمس من قداسته بل يقف إعجابا وإجلالا للإعجاز اللغوي في القرآن الكريم.
وقد منحنا الله نعمة العقل لنفكر ونتدبر ونكون أحرارا .. و»إذا سلبنا حرية التعبير عن الرأي فنصير مثل الدابة البكماء التي تقاد إلى المسلخ.»
مرايا وشظايا: آمنة الشرقي «قربان» حرية التعبير: محاكم التفتيش ونصب مشانق الاضطهاد
- بقلم ليلى بورقعة
- 09:45 16/07/2020
- 1335 عدد المشاهدات
«إذا وجد الإرهاب الفكري فقد وجد كل إرهاب، كما أنه إذا وجدت الحرية الفكرية زال الإرهاب كله .. فلا حرية إذا لم توجد الحرية الفكرية ،