عندماأتذكّر أن الأرض بكل ماضيها ومستقبلها ليست إلا مجرّد حبة رمل مرمية في عمق المجهول. هي وطننا، يشبهنا في سحره وضعفه وعشوائيته.
فخطيئتنا الكبرى نحن البشر أننا نبحث دائما عمن يرعانا، أننا نتشبّث بصورة إله كامل، يوهمنا أننا مثله، وهذا غرور لا مثيل له، فالكون يستخرج النظام من الفوضى دون غاية أيضا، ربما نحن من نضع الغاية دائما وهذا محزن ومربك، لأننا نعتبر الصدفة والعشوائية عقابا من هذا الرب المتخفي. ولكن رغم كل هذا فأنا حاربت حتى الرمق الأخير، أسقط لأقوم مجددا باحثة عن معنى جديد.
ولكن ماذا لو قمت في الصباح يوما ووجدت عالمك قد تغيّر، اختفى كل من تعرف وكل من تحب فجأة ووجدت نفسك وحيدا في وطن لم تعدتعرفه؟ ماذا لو لم تعد كل الأديان والأيديولوجيات والمذاهب الاقتصادية تجدي نفعا، ولم تعد راضيا مستمتعا بالحياة؟ ماذا لو لم تعد تميّز بين الأبطال والجبناء، بين صنّاع الحضارات ومهدميها؟ بين الملوك والرؤساء والأباطرة وبين رجل قروي لم يغادر قريته قط؟ ماذا لو استوى الفلاسفة والعلماء برجال الدين وبالسياسيين الفاسدين؟ ففي كل يوم يقتل البشر من أجل معاركهم المضحكة، يخترعون قضايا باسم معتقداتهم أو باسم جشعهم وأمراضهم ويقتلون بني جنسهم ويضطهدونهم ليكتبوا أمجادهم وانتصاراتهم المثيرة للشفقة، تلك الانتصارات الواهمة التي يزيلها الزمن ويمحوها النسيان، البشر حمقى وقساة كتبوا التاريخ بجهلهم ووضعوا حدودا لبعضهم البعض، ولقّنوا الأوهام والكراهية والتمييز في مدارسهم، وكل يعتقد أنه محور الكون، في حين أنّنا ضعفاء للغاية، وأنّ لا محور للكون بعد، إننا مرميون ومعزولون.
حاولت أن أكون أكثر تواضعا وأكثر لطفا واحتراما لبني جنسي من البشر، بل لكل الموجودات على أرضنا، ولكنني لم أنجح إلا في الشعور بالغربة الموحشة، غربة قاهرة تحاصرها أخلاق البشر وجنونهم، هذه الأخلاق التي تناقض نفسها بنفسها وترتدّ على نفسها بتقدّم الزمن.. فحتى الرحمة كلمة يتشبّث بها البسطاء للاحتماء من ظلم بني جنسهم، الرحمة التي لن تنزل أبدا إلا أذا صعدنا إليها.. ولكن الزمن يخذل الرحمة لا محالة، فالبشر هنا مهددون بكل أنواع الأخطار والمآسي، محاطون بالخرافات والجشع والغباء، محاصرون بالمجاعات وأنهارالدم، محشورون في السجون ومحكومون بقيود أنفسهم، ولكنهم مع كلّ هذا هم مطمئنون مع الهتهم ومعتقداتهم، آمنون مع أحبابهم إلى حين، فمن العبث إذن أن يتخلى المؤمن عن
اطمئنانه وعن أمجاده وأساطيره وملائكته لأجل اللاشيء.. فقط المساكين هم من لا يملكون آلهةتطمئنهم وتخفّف عنهم معاناتهم.. وذلك شقاء العاقل دوما. فلا وجود للرب إلا داخلنا وهذا أمر منطقي نوعا ما.. ومثير للشفقة أيضا.
ولهذا صرت أبحث عن الدراويش في كل مكان.. من المحزن أن أعيش في مدينة بلا دراويش.. بلا ضحكاتهم ولا ابتساماتهم، بلا بساطتهم.. لقد تغيروا كثيرا، ربما قست عليهم المدن فقسوا على أنفسهم.. أخفوا صراخهم حتى تغيرت ملامحهم.. وتغيّرت أمانيهم، وأصبحوا يفكرون فيأمور لم تكن من أمنياتهم عندما كانوا أطفالا.. أمور ترهقهم وتتعبهم.. وتجعلهم منسيين، مرميين وبائسين.. قد يصحون لوهلة على واقع غيرمرضي ولكنهم سرعان ما يستسلمون ويرضون، يواصلون حياتهم منساقين إلى قدرهم وحتفهم ولم يتجرؤوا ولو لوهلة على الصمود أكثر ففي حلبة القتال.. خافوا من الضربات التي قد تقسم ظهورهم فقسمت حياتهم في الأخير، لم يغامروا ولم يقامروا.. لازموا الحائط واستكانوا .. كانوا جبناء، والجبان لا
يمكن أن يحقق أحلامه.. لقد انسحبوا من معاركهم الحقّة.. لعلّ أسوء إحساس يمكن أن يشعر به إنسان أن لا يحقّق ولو حلما من أحلام طفولته.. كم هذا مؤلم ومخز.. نعم من الخزي أن لا يحقّق الإنسان ولو حلما واحدا أراده.. لقد نسوا أحلامهم وتخلّوا عنها.. الحلم تلو الآخر..
لقد خافوا من البكاء فحرموا أعينهم لذة الدموع، ولم يعرفوا أنّ في انكساراتهم ألف معنى ومعنى كي يبدأوا من جديد.. خافوا من الألم، من العار، من قوالبهم، من مجتمعهم، من حاكمهم، من أربابهم الكثيرة .. لم يواجهوا أنسفهم يوما أمام المرآة.. ربما صدّقوا صورا أخرى ليست صورهم.. وذلك الجهل عينه.. صاروا كملايين الفقاقيع من البشر.. حياتهم غالية ولم يقدروا ثمنها.
كنت أبحث عن الدراويش في كل مكان.. ربما هم مبعثرون في الطرق الغريبة، الوعرة.. يتعثرون كثيرا، ويسقطون.. ويكملون رحلة بحثهم عن معنى ما..
ولكني لم أعثر عليهم بعد..فهل كنت تعتقد أن حياتك ستتغير يوما إلى شيء لم تكن تتوقعه أبدا؟ لا أريد أن أخيفكم مما آل إليه حال هذه الديار.. يوما بعد يوم نزداد يقينا أن الحياة هنا بلا ضمانات، هي بلا ضمانات في كل الأحوال، وحده الخيال ما يجعلنا نستمر. فقط عرفت أنّ لا معنى لحياتي إلا أن أعيشها بكل ما أوتيت من الحب، ولا معنى لأحلامي إلا أن أكتبها بكل ما أوتيت من خيال..