ولئن ساهمت المكتبة الوطنية في رقمنة الصحف التونسية قديمة الصدور وحفظ عناوينها وذاكرتها من الاندثار، فقد تم العثور على ثروة من الصحف الجهوية تستحق التثمين والتعريف والتكريم. وفي هذا السياق انتظم يوم الجمعة 8 نوفمبر 2019 لقاء حول الصحافة الجهوية بالمكتبة الوطنية، تم خلاله تكريم مؤسس صحيفة «شمس الجنوب» علي البقلوطي لمثابرته طيلة عقود على رصد نبض الجهة وإعلاء راية إعلام القرب ...
في استقبال رواد المكتبة الوطنية حول لقاء الصحافة الجهوية كان المعرض الوثائقي يحتفي بعناوين صحف قديمة، اصفرت أوراقها لكن لم يسكن الخريف أشجارها بل مازالت في سجل التاريخ والأرشيف محفوظة وبفضل التوثيق حيّة لا تموت.
الرقمنة تنقذ رصيد الدوريات التونسية
عن دواعي تخصيص لقاء يهتم بالصحافة الجهوية واختيار تكريم صحيفة «شمس الجنوب» بصفاقس وتقديم درع التكريم إلى مؤسسها علي البقلوطي، أفادت المديرة العامة للمكتبة الوطنية رجاء بن سلامة في مستهل هذا اللقاء بالقول إنّ «الفكر النقدي قد يكون في أحد وجوهه مقاومة المسلمات والبديهيات، وكثيرا ما ترتبط المسلمات بالنسيان حيث يصبح غيابها هو البداهة نفسها. ومن بين هذه البديهيات نسيان ما يوجد خارج الحاضرة أي العاصمة، نسيان ما يوجد وراء اللافتات... واقع الحال الذي أشير إليه هو الصحافة الجهوية والصحافة المكتوبة عموما. فكثيرا ما ننسى وجود هذا الصنف عند الحديث على التراث الوطني المدوّن على غرار المخطوطات والمطبوعات القديمة... دائما يسألونناعن المخطوطات وكأنها الكنز الوحيد في المكتبة ولكن في الحقيقة لا يجب أن نتغافل عن وجود ثروة من الدوريات القديمة التي تمت رقمنتها لإنقاذ رصيدها. إن المكتبة الوطنية تكتنز نفائس غير معروفة وغير مدروسة بما فيه الكفاية للدوريات التي يعود بعضها إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر.ولهذا أصدرنا 3 فهارس تتعلق بالدوريات كان آخرها فهرس الدوريات الجهوية . ويضم هذا التراث الضخم 129 عنوانا منها 111 بالفرنسية و12 بالعربية و3 بالإيطالية و3 بالعبرية. وحتى نربط الماضي بالحاضر أردنا أن نحتفي بالصحافة الجهوية التي تقاوم تحديات التهميش والمنافسة الخطيرة ممثلة في نموذج صحفيتي «شمس الجنوب» التي تأسست منذ 1980 ونظيرتها الفرنسية» la gazette du sud « التي يعود صدورها إلى سنة 1975 ... والمدهش الذي يثير التعجب والعجب أن هاتين الصحيفتين لصاحبهما على البقلوطي صارعتا من أجل البقاء وحافظتا على انتظام الصدور من النشأة إلى يومنا هذا على امتداد أكثر من 40 عاما لتصبحا وجها من وجوه الذاكرة الثقافية في صفاقس».
الصحافة الجهوية: نبض القرب رغم التهميش
في وقوف على مسارات الصحافة التونسية ومحطات نهضتها ونضالها عبر فصول التاريخ، ألقى رئيس جامعة صفاقس عبد الواحد المكني مداخلة عن تاريخ الصحافة في تونس قدّم خلالها نبذة عن تطور الصحافة الوطنية بعد صدور أوّل صحيفة في بلادنا بعنوان الرائد التونسي سنة 1861 ، مشيرا إلى أن رواد حركة الإصلاح الوطني كانوا أساسا يمارسون الصحافة ويناضلون بالقلم في الصحف. واعتبر أستاذ التاريخ المعاصر عبد الواحد المكني أن الصحف في الجهات عبارة عن مغامرة شجاعة تستقطب النخب وتساهم في حركة النهوض ومنوال التغيير لكنها للأسف كثيرا ما تكون مغمورة ومهضومة الحقوق دون المكانة التي تستحقها.
إن كانت نشأة الصحافة التونسية تعود إلى سنة 1861 بصدور الرائد التونسي ، فإن ظهور الصحافة الجهوية يرجع إلى سنة 1905 في بنزرت بصدور صحيفة «بنزرت ايكو» حسب مداخلة المولدي العارم عن مركز التوثيق الوطني الذي أشار إلى ارتباط الصحف الجهوية بثنائية الظهور والاختفاء...
وقد أفادت حسناء القبصي في تقديمها لفهرس الصحافة الجهوية في تونس قبل الاستقلال أن ظهور الصحف الجهوية كان متمركزا بالشريط الساحلي خصوصا صفاقس لازدهار حركة المطابع بها وتمتعها بمستوى تعليمي محترم.
عن اقتصاد الصحف و التحديات المالية التي تعصف باستمرار العناوين الجهوية، أكد محمد قنطارة في قراءته لواقع الصحف الجهوية وآفاقها أن ضيق السوق وارتفاع وشح الدعم وتراجع الإشهار العمومي ... كلها مكبّلات تحدّ من استمرار صحافة الجهات. وأشار محمد قنطارة إلى أن حجم الاستثمارات في الإعلام عموما لا تتجاوز نسبة 8.66 في تونس مقارنة بـ 19.65 في المغرب و 10.49 في الجزائر، إلى جانب ضعف معدل السحب على المستوى الوطني في تونس والذي يقدر بـ 400 ألف نسخة فقط.
وشدد المحاضر على مناقضة السلطة للدستور باعتبار أن الحكم الديمقراطي والتشاركي لا يستقيم دون دعم الإعلام الجهوي وتمكينه من الإشهار والاشتراكات... مؤكدا أن التنمية الجهوية لا تكون دون صحافة جهوية.
«شمس الجنوب»... قصة نضال وحكاية كفاح
أن يأتي التكريم متأخرا خير من ألا يأتي أبدا. وبعد مسيرة طويلة من التأسيس والكفاح من أجل الاستمرار... أثنى على البقلوطي مؤسس الصحيفتين الجهويتين «شمس الجنوب» و «la gazette du sud» على مبادرة المكتبة الوطنية بتكريمه والوقوف على محطات من تجربته الشاقة والشيقة في آن واحد، حيث كانت أشبه بالسير على الأشواك والمطبّات ولكنها كانت تصل إلى برّ الأمان في نهاية المطاف. بكثير من الحنين والشغف استرجع الصحفي علي البقلوطي ذكريات الأمس والبدايات الأولى مع صاحبة الجلالة التي بدأت منذ نعومة الأظفار مع مجلة «السندباد « المصرية للأطفال لتكبر الموهبة وتنمو بمراسلة صحيفتي «العمل و»لاكسيون» بالعاصمة ثم انتهت بتأسيس صحيفتين جهويتين تصدران من صفاقس باللسانين العربي والفرنسي كانتا بمثابة المدرسة التي تتلمذت فيها عديد الأقلام المعروفة والوجوه الإعلامية الشهيرة وكذلك المرجع التوثيقي عند الحاجة لرصد نبض صفاقس الموّثق في صفحات وسطور هذه المحامل الصحفية والجهوية.
كيف حافظت هاتان الصحيفتان الجهويتين على الصدور المنتظم منذ الثمانينات إلى اليوم رغم تراكم الصعوبات وتزايد التحديات؟ يجيب المؤسس علي البقلوطي ، فيقول:» اشتعل الرأس شيبا وتقرّحت الأقدام في طرق أبواب الحكومات والمؤسسات للمطالبة بحقنا المشروع في الوجود والحياة. فكان العمر نضالا على أعتاب السلطة الرابعة حيث كاد يقتلنا البأس والإحباط لكننا لم نستسلم ولن نستسلم مادام في العمر بقية وفي القلم حبر ووصيّة».