هو الرجل الصارم في منهج العلم والبحث والإنسان المتواضع والودود والرجل الوطني الذي يخاف على بلده تونس خوف الأم على الوليد.
وبعد أن قطف من زهور النحو العربي وأرسى على ضفاف علم اللسانيات، انتهى الدكتور محمد صلاح الدين الشريف إلى إبداع «نظرية الإنشاء النحوي للكون»... ولا زال على درب المعرفة يسير بلا كلل ولا ملل وهو القائل: «المدرسة حرم فيها صلاتي تصلني بها، صومي عما يلهيني عن جنة العلم وأحبار القلم، وبها زكاتي إلى الفقير إلى المعرفة والمتطلع من الخلق، وبها سبيلي إلى الحج وجدت السبيل أم لم أجد.»
وحين يسأل الدكتور محمد صلاح الدين الشريف عن نفسه فإنه يكتفي بالإجابة: «ما أعرفه عن نفسي - ولا أعد به - أنني كأهل الصوف شديد العشق دائم الشوق لا أفعل شيئا لا نشوة فيه».
وعلى عتبة حوار تقصّى حدود الإمتاع والإفادة في ضيافة أحد أبرز أعلام اللغة والمختصين في اللسانيات في تونس والعالم العربي، كان الحوار التالي:
• أنت من أبرز مؤسسي المدرسة التونسية في النحو وصاحب «نظرية الإنشاء النحوي للكون»... هل يمكن أن تبّسط لنا مفهوم هذه الأطروحة وأهم مقاصدها ؟
لست المؤسّس لما سمّي بالمدرسة التونسيّة في النحو. لقد بدأ التأسيس مع عبد الوهّاب باكير وعبد القادر المهيري في الستينات، فكنت أحد خرّيجيها. وفي الجامعة تعلّمت على المهيري والقرمادي. وتمكّنت من الجمع التأليفيّ بين المحافظة التعليميّة عند الأوّل والتجديد العلميّ عند الثاني.. لذا، قد يكون من الأسلم ألا أنعت بالمؤسّس، بل بأبرز المنظّرين والمنظّمين لأعمال هذه المدرسة.
من الصعب تلخيص هذه النظرية التي وضعت فيها عصارة كل تكويني العلمي واللغوي والفلسفي. باختصار، اللّغة امتداد اجتماعيّ للترابطات العصبيّة تمكّن من المعالجة المشتركة للمعلومات الطارئة من المحيطين الداخليّ والخارجي.وبفضل هذا التعامل استطاع الإنسان أن يبدع شيئا في الطبيعة يسمّى الثقافة. هذه الفكرة أساسيّة في نظري في فهم التطوّر الثقافي عند الإنسان وفي التفسير الأنتروبولوجيّ اللغويّ لنشأة الحضارات وتطوّرها، وتعيننا على فهم الدور الثقافيّ الإنسانيّ للسان العربيّ قديما وحديثا.
• وهل وجدت هذه الأطروحة المبتكرة ما يليق بها من صدى وانتشار في تونس وخارجها؟
لا أعتقد ذلك، وإن كانت تحظى بالاحترام والإعجاب في تونس وفي بعض البلدان العربيّة. فكلّ نظريّة، مهما كانت، في حاجة إلى التمحيص النقدي والمنهجيّ. فلا معنى للتنويه ما لم يسبق بالمساءلة.
لا أنكر أنّ النظريّة وجدت صدى عند بعض زملائنا في قسم الفلسفة وأنّها أثّرت في مسيرة أعلام وشخصيات جامعيّة مرموقة على غرار شكري المبخوت الذي كان ومازال، قبل أن يعرف بالكتابة الروائيّة من أقوى المدافعين عنها في الجامعة، كما وجدت عند بعض الزملاء في غير قسم العربيّة بعض التقدير، لا سيّما من قبل المرحوم أحمد إبراهيم الذي كان من أكبر اللسانيّين في قسم الفرنسيّة، والذي شجّعني كثيرا منذ أواخر السبعينات.
• إذن بماذا تفسّر هذا الحظ القليل لأطروحتكم اللغوية في الاعتماد في برامج التدريس التونسية والعربية على الرغم من قيمتها العلمية والفلسفية... ؟
لعلّ السبب الأوّل والرئيسيّ هو تأخّر العالم العربيّ في مجال التفكير الفلسفيّ عموماوالتفكير اللغويّ بالخصوص. فاللسانيّات لم يبدأ التبشير بها إلا في الخمسينيّات مع جيل الروّاد والاهتمام بهذا العلم لم يبدأ إلا في أواخر السبعينات مع جيل المؤسّسين لهذا العلم،والجيل الثالث الذي كوّنّاه مهدّد بانهيار الجامعة التونسيّة وهو يتخبّط ليعيش وينشر معرفته خارج الحدود في الخليج. والسبب الثاني أنّنا نعيش في ظرف ثقافيّ يغلب عليه احتقار الذات والشكّ في أنّه من الممكن تجاوز الغرب في المعرفة. إنّنا نرتقب الآخر دائما للاعتراف بنا. وهذا أمر معروف في جميع الميادين العلميّة؛ وهو عامل أساسيّ في هجرة الأدمغة. وبالرغم من خيبتي اليوم، فإني متفائل بالغد ومؤمن بأنّ هذاالجيل سينصفني، ولو بعد رحيلي، بالتقدير والمجازاة.
• تصاعدت الدعوات الملّحـــة في السنوات الأخيرة إلى إصلاح التعليم، ما المشكل وما الحلّ في نظرك؟
منذ السنوات الأولى ممّا سميّ بـ»الثورة»،نبّهت إلى أنّ التعليم في تونس المستقلّة هو القطاع الأكثر نجاحا في بنائها. وأكبر خطإ وقعنا فيه بعد 14 جانفي هو تحميل إخفاق السياسيّين والاقتصاديّين في تنمية البلاد وفي خلق مواطن الشغل إلى المؤسسة التعليمية. وأكبر دليل على نجاحها أنّ الخريف العربيّ لم يكن ربيعا إلا بتونس بفضل التعليم الذي كوّن الإنسان التونسيّ، وجعله حرّا ومسؤولا يجيد إدارة أزماته بأقلّ الأضرار.
• وأنت ترى أن التعليم التونسي بخير ولا يشكو أزمة، كيف تفسر تأخر تونس في ترتيب الجامعات وإقدام خريجي الجامعات على الانضمام إلى داعش؟
أوّلا يجب ألا نغفل عن أن الكفاءات التونسية منتشرة في أنحاء العالم. فلو كان تعليمنا مخفقا، لما كان خرّيجوه مطلوبين بالآلاف في بلدان عربيّة وغربيّة كثيرة. وقد كان سليما ينقصه بعض الحزم.، لكنّنا أجهزنا عليه، وجعلناه في أزمة. أما التحاق البعض بصفوف الإرهاب، فمن أسبابه البطالة والإحباط وقنوات الدعاية التي تموّلها بعض الأطراف بتشجيع مقصود من بعض القوى العالميّة.
• أراك تصف ما حدث في تونس من تحوّلات كبيرة بقولك «ما يسمّى بالثورة»، كيف تفسر هذا الموقف؟
فرق كبير بين المدلول المعجميّ العامّ لهذه الكلمة، ومدلولها الاصطلاحيّ. حقّا وقع هيجان كبير، ودخلنا في طور جديد. لكنّني لست على يقين أنّنا تحرّرنا فعليّا من منظومة الفساد التي سيطرت على تونس منذ أكثر من عقدين، ولا أنا على يقين بأنّنا أرسينا دولة القانون. ثمّ إنني لغوي ولا يمكن لنظرتي إلا أن تكون تاريخية، باعتبار أن اللغة تعيش في التاريخ وليست ظرفيّة آنيّة. إنّ تصوّراتي الانتروبولوجية اللغويّة، وتوجّهاتي المنهجيّة القائمة على النظريّة التطوّرية وعلى النظرية الجدلية المادية تمنعني من قبول الفكرة الساذجة المؤمنة بالثورات المفاجئة.صحيح أنّ ما حدث في تونس ما بين 17 ديسمبر2010 و14 جانفي 2011 كان إلى حدّ ما نتيجة تراكمات سياسيّة واجتماعيّة واقتصاديّة داخليّة، لكنّنا نعلم منذ حرب العراق الأولى أنّ بعض القوى الغربيّة تسطّر لخريطة جديدة للعرب، ونعرف منذ حرب العراق الثانية أنّ أيّام الدكتاتور قد انتهت في حسابها. صحيح أيضا أنّ مشاكلنا في العالم العربي متشابهة، لكن من غير المنطقيّ أن يغلي قدر الغضب في الأقطار العربية دفعة واحدة في نفس الوقت وبنفس الكيفيّة، والحال أنّه على مستويات مختلفة من النضج.
• في تونس كان الرهان منذ فجر الاستقلال على قوّة العقل وقد كسبنا الرهان في أكثر من موضع، ماهي في تقديرك الأخطار المحدقة بهذه القوة؟
طبعا إنّ المراهنة على الإنسان تعطي ثمارها دوما. وهنا يكمن نجاح المشروع التعليميّ في دولة الاستقلال. لا شك أنّنا نمرّ بأزمات، لكنّها ظرفية وحتميّة مهما طالت.ودون أزمات لا يمكن للمجتمعات أن تتطوّر. ومهما كانت الأخطار فالأكيد أننا نتقدم ولن نعود إلى الوراء. وستبقى تونس رائدة في العالم العربيّ في تقدّمها الثقافيّ والاجتماعيّ.
• في كل منعرج تاريخي تكثر المواقف الدّاعية إلى اجتثاث القديم والتأسيس من جديد، هل ترى ذلك ممكنا من وجهة نظر ابستيمولوجية؟
لا يمكن للثقافة إلاّ أن تكون تاريخيّة، لا يمكن أن تكون آنيّة بلا ماض. وهي باعتبار أنها جميع ما يختزنه المجتمع عبر تاريخه من معلومات وتجارب وخبرات... ذاكرة جماعيّة تضمنها اللغة. إذا كان الوعي بالحاضر مع فقدان الذاكرة معتبرا عند الفرد مرضا نفسيّا وعصبيّا يستوجب العلاج، فكيف لا يبقى كذلك بالضرورة إذا أصاب المجتمع. لكنّ الهروب من أزمات الحاضر للاحتماء بأمجاد الماضي مرض هو أيضا؛ وكذلك الشأن عند من ينكر حاضره وماضيه ليعيش في الحلم بغد أفضل.
• يرى البعض بأن العولمة والسماوات المفتوحة أنشأت كينونة ثقافية عارية مُعلنة عن ميلاد المواطنة العالمية، كيف ترى جدل الهوية والانفتاح في ظل هذه التحولات؟
لكل شيء في الوجود هوّية بها يكون، بما في ذلك الصخر. وفي الواقع،لا يملك أيّ مجتمع أيّ حرّيّة في تغيير الهويّة التي فرضها عليه التاريخ... عبارة الهويّة عبارة أساسيّة في وعي الشعوب بانتسابها إلى مجموعة إنسانيّة أكبر ومخالفة لمجموعات أخرى. فمن المغالطة أن يدّعي أيّ كان أنّ التونسيّ مستعدّ للتخلّي عن صفته العربيّة الإسلاميّة. ومن الخطإ الاعتقاد بأنّ هذه الصفة صفة قوميّة دينيّة خالصة. فهي هويّة لسانيّة وحضاريّة ثقافيّة قبل كلّ شيء.ولا وجود لأيّ تونسيّ يحدّد كيانه خارج هذه الهويّة حتّى وإن كان يدّعي غير هذا. بل كثيرا ما يكون الناكر لهوّيّته أكثر الناس شعورا بنقائص المجموعة التي ينتسب إليها، وعلى هذا الأساس تشتغل اليونسكو منذ نشأتها في المحافظة على الخصوصيّات الثقافيّة ضدّ المجموعات المهيمنة. وفي الواقع التاريخيّ، ليست العولمة وليدة اليوم بل انطلقت مع الامبراطوريّات الأولى، وفي حدود معرفتها بما كانت تعتبره العالم في عهدها.ومنذ الحضارات الكبرى الأولى، كانت كلّ عولمة قائمة على أنقاض أخرى.وليست العولمة الحديثة سوى الحدّ الأقصى لما تظنّ الحضارة الغربيّة أنّه كلّ العالم، بعد انحسار عولمة الحضارة العربية الإسلامية القائمة على أنقاض الإغريقيّة. لكن من الواضح منذ الحرب الباردة وبعد قيام التنّين الصينيّ، أنّ الصراع الحضاريّ لم ينته بعد إلى هويّة ثقافيّة واحدة رغم غلبة الأنموذج الغربيّ.
• وأنت عضو قار ببيت الحكمة، كيف تقيّم أداء المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون؟
أعتقد أن المجمع لم يقم بدوره كما يجب إلى الآن. لكنّني أسجّل تحسّنه في السنوات الأخيرة. يجب ألا يقتصر دور بيت الحكمة على جمع الأعلام وعلى تنظيم المحاضرات والاحتفاء بالإصدارات. صحيح أنّه يضمّ كفاءات كبرى في كافة الميادين ممن تجاوزوا الخمسين ولم تعد لهم طموحات شخصية . لكن حكم عليه أن يبقى مجرّد مؤسّسة ثقافيّة عاديّة مخصوصة ببعض المميّزين. فالمشرّع لم يدرك بعد أنّ المجمع مؤسّسة دولة، وليست مجرّد مؤسّسة حكوميّة. فإلى الآن لا يرتبط المجمع التونسيّ مباشرة برئاسة الجمهورية كما هي الحال في المجامع الجمهوريّة والمجامع الملكيّة في العالم. وإلى حد الآن لا يقوم بوظيفته في تمثيل السيادة الوطنيّة في المجال اللغويّ والثقافيّ.
• ما رأيك في نتائج الانتخابات، وكيف تجد تونس في ظل التوزيع الجديد للأحزاب والأدوار والمواقع؟
لم أنتم قط ولا أنتمي الآن ولن أنتمي أبدا إلى أي حزب، اخترت أن أكون معلّما ملتزما بالحقائق والقيم الكبرى المجاوزة للتقلّبات السياسيّة. لكنّ السياسة تدخل بيتك حتّى وإن أغلقت بابه وانعزلت فيه. في هذا الظرف القاهر، يبدو لي أنّ الإسلام السياسيّ ومشتقّاته التي نشأت في ظلّ تنظيم دينيّ سياسيّ سرّي، ما زال يعاني من صعوبة الاندماج في مشروع مدنيّ مناسب للدور السياسيّ الراهن ولتركيبة المجتمع التونسي؛ وأتوقّع أنّه لن ينجح إلا بالتخلّص من رموزه التقليديّة المتشبّثة بماضيها ومن الأجنحة العنيفة النائمة والمتحفّزة.وليست النهضة الوحيدة في ذلك. وعلى هذا النحو، أرى أنّ هزيمة اليسارالتقليديّ ناتجة عن عدم تكيّفه مع متطلّبات الحاضر، وعدم قدرته على العيش في ظل عالم تسوده الرأسمالية المتوحّشة والمراعية لجميع مظاهر الفساد الماديّة والأدبيّة.وعلينا ألاّ ننسى أن الاغتيالات السياسية وقعت في صفوف اليسار قصد حصد رؤوسه المفكرة. والخوف كل الخوف أن يلاقي ملف اغتيال بلعيد والبراهمي نفس مصير ملف مقتل الرئيس الأمريكي كيندي. وأعتقد أنّ تونس ما زالت في حاجة إلى قيم الفكر المدنيّ الذي نشره اليسار التونسيّ.أما التيّارات الوسطيّة، فرغم دورها في بناء الدولة الحديثة سابقا، فإنّها تعاني اليوم من التشرذم، وأصبحت أشبه ما تكون بالقوقعة الفارغة لعدم قدرتها على التحكّم العاجل في الوضع الاقتصاديّ الاجتماعيّ. لكنّها تبقى ضروريّة لإحداث التوازن. ومن صالحها ومن صالح تونس أن تتعامل مع اليسار المعتدل والواضح في اختياراته المدنيّة، وأن تبتعد عن عالم الفساد ذي الطبيعة المفيوزيّة.
إن تونس أخذت تحكمها منظومة الفساد منذ السبعينات بصفة طفيفة، ثمّ تفاقم الأمر. وفي التسعينات اتّسعت رقعة الفساد لتتغوّل في السنوات الأخيرة بعد ما سمّي بالثورة. وأعتبر أنّ أشباح الفساد الذي ينتشر كالنار في الهشيم أقوى من تهديد الإرهاب الذي بوسعنا أن نتحداه ونهزمه... علينا إذن أن نجيد الاختيار حتى نخرج بأقلّ الأضرار، وألا نعتقد أنّ التزمّت العقديّ أخطر من التسيّب الماديّ الفاسد.
• قد يكون المرشح قيس سعيّد قاب قوسين أو أدنى من كرسي قرطاج، ما رأيك في رئيس جمهورية يتحدث اللغة العربية الفصحى في كل المنابر وفي كل المناسبات؟
لست على يقين من قربه. فقد صار الفساد الماليّ والتسيّب خبز التونسيّ اليوميّ. أمّا أسلوبه في التواصل، فهو أسلوب رتيب محنّط وغير بليغ فيه مبالغة وإساءة للسان العربيّ. وقد كانت العربيّة كالإسلام ضحيّة من يظنّون أنّهم يدافعون عنها.إنّ اللسان العربيّ لسان ثريّ بلهجاته، وفي هذا التنوّع تكمن قوّته. فجميع الألسن القوية ألمتنوّعة اللهجات، لا أستثني الأنقليزيّة ولا الفرنسيّة ولا الألمانيّة ولا الروسيّة ولا الصينيّة ولا غيرها.فمن واجب رئيس الدولة الراعي للدستور أن يتكلّم بعربيّة لا هجنة فيها. لكنّ قواعد البلاغة تطلب منه أن يستعمل اللهجة المناسبة؛ فشتان بين خطاب في الأمم المتّحدة، أو في مناسبات دبلوماسيّة، وخطاب موجّه إلى عامّة الشعب. فإذا كانت بعض المناسبات تستدعي الصيغة المعياريّة الرسميّة فإن بعض المناسبات الأخرى تستدعي الدارجة المشتركة المهذبة القريبة من الاستعمال اليوميّ في الشارع والمنزل. وفي جميع الحالات لا يليق بمن يمثّل السيادة التونسيّة أن يتكلّم بغير العربيّة في المناسبات الرسميّة، ولا يليق به أن يتكلّم بلهجة خليطة شبيهة باستعمالات الطلبة غير المكترثين بالسلامة التعبيريّة.