شذى عطرها فتسكر الحواس وينتشي الإحساس... كان هذا وأكثر على ركح مهرجان قرطاج الدولي في ليلة غنّى فيها القمر وصفقت فيها النجوم لعذوبة استثنائية في صوت الفنان عدنان الشواشي تنساب في رقة كهمس الموج، كشدو البلابل، كفرح الحياة.
كانت سهرة 24 جويلية 2019 من أروع حفلات مهرجان قرطاج الدولي حيث كان الفن الجميل سيّد الركح وكان عدنان الشواشي ملك الطرب في مصاحبة راقية ورائقة لفرقة الوطن العربي للموسيقى بقيادة الموسيقار عبد الرحمان العيادي. وكان إخراج الحفل بإمضاء حسام الساحلي بمنتهى الإتقان والإبداع.
عذوبة صوت من ذهب
في صلوات الحب والجمال لا يهم عدد الجمهور المصطف أمام ركح الفنان، وفي معبد الفن لا يهم العدد بل الأهم خشوع القلوب... فلم يكن حفل عدنان الشواشي على ركح مهرجان قرطاج الدولي يخضع إلى منطق شباك التذاكر بل إلى محبّة لا تقدر بثمن ترجمها جمهوره بالتصفيق الحــــــار، بالزغاريد، بالتهاليـــل، بالوقوف إجلالا لروعة شدو حنجرة من ذهب.
بعد مقدمة موسيقية من إبداع فرقة الموسيقار عبد الرحمان العيادي سلبت البال والخاطر ومهدت لعشاق الفن الجميل لاستقبال مطربهم الكبير، خرج عدنان الشواشي إلى جمهوره بكل شوق وحب بعد غياب أكثر من 20 سنة. فكان الترحيب بلا حدود من الحضور وكان التأثر البالغ والصادق من الفنان. هذا الحب والاحترام المتبادلين، تحوّلا فوق الركح إلى ليلة من الإمتاع والمؤانسة تواطأ فيها الفنان مع أحبّاء فنه على الانعتاق من ربقة الزمن وقيد المكان والسفر بعيدا، بعيدا على أجنحة من موسيقى ونغم في رحلة تهدهدها الأغاني المتكاملة لحنا وأداء وكلمات... وقد نجح عدنان الشواشي بكل اقتدار في تحقيق مقولة بيكاسو «الفن يمسح عن الروح غبار الحياة اليومية «بل إنه لم يهد إلينا مجرد نغمات وحزمة أغنيات بل وزع علينا أقراصا مسكنة للأوجاع ووهبنا بلسما للجراح في لحظة تحرر وانعتاق وانتشاء ... ألم يقل أرسطو بأن «الفن شكل من أشكال العلاج»؟
وفاء... وحنين ذكريات
كما تحفظ حجارة المسرح الأثري بقرطاج قصص انتصارات وروايات بطولة تعود إلى فصول التاريخ، فإن ذاكرة عدنان الشواشي تختزن حفلات كرّ وفرّ مع ركح مهرجان قرطاج الدولي... لكن هذا الفنان الشامل لم يخسر الرهان وكان قوس النصر سلاحه في تصويب شعلة الطرب بنجاح إلى قلوب الجماهير، لتستقرّ هناك على مرّ الأجيال وتبقى على العهد والوعد لفنان احترم جمهوره ولم يبخس من رقي الفن.
كما يحسب لعدنان الشواشي الوفاء إلى الأغنية التونسية والإخلاص إلى الموسيقى الأصيلة، فإنه أيضا يدين بالعرفان ورد الجميل إلى كل من سجل بصمته في نحت مسيرته على غرار الفنان والمدير السابق لمهرجان قرطاج الدولي رجاء فرحات الذي منحه فرصة الصعود على مسرح قرطاج الدولي سنة 1980 لأول مرة في سهرة افتتاح احتفت بأصوات شبابية جديدة مثلها كل من لطفي بوشناق ولطيفة العرفاوي وعبد القادر العسلي ومنية البجاوي .
بعد آخر ظهور له على ركح مهرجان قرطاج الدولي سنة 1997، يعود الفنان الرقيق سنة 2019 إلى ملاقاة جمهوره المتعطش إلى بهجة الطرب والمشتاق لصاحب الصوت الاستثنائي ... وككل مرة لم يفوّت عدنان الشواشي فرصة تكريم فنانين أثروا في مسيرته وأخذوا بيده على درب الفن وهما «بابا منور زروق» و«الهادي المقراني».
غنّى عدنان الشواشي للعاطفة والحب والحياة... ولم ينس الطفولة العذبة التي تماهي في أحد وجوهها عذوبة صوته. فكان من المتوقع أن يشدو بـ «احكيلي عليها يا بابا» بمرافقة أربعين من أطفال كورال البحيرة بتوزيع موسيقي جديد. ولكن الحنين والوفاء مرة أخرى جعلا الفنان الراقي يطلب من الفنانة سنيا مبارك بمنتهى اللباقة أن تصعد الركح لتؤدي معه الأغنية الشهيرة. وما بين الأمس واليوم، مرت السنوات وكبرت الطفلة ... لكن أغنية «احكيلي عليها يا بابا» لم تكبر والطاقات الصوتية المهيبة لسنيا مبارك وعدنان الشواشي لم تهرم وبقيت نبض وجدان وعزف حياة.
هدايا ومفاجآت جميلة
رغم قصر الوقت وضغط تحضير حفله قبل حوالي ثلاثة أشهر فقط، فإن «عميد المطربين» كما يلقبه الموسيقار عبد الرحمان العيادي رفض مصافحة جمهوره وهو خالي الوفاض وأبى إلا أن يخبئ لهم مفاجآت جميلة في صناديق من الفرح والحبور. فإذا به يعيدنا إلى مهرجان قرطاج أيام الزمن الجميل ويفاجئ الجميع بظهور الفرقة الوطنية للفنون الشعبية لإبداع لوحات راقصة تنهل من الهوية والموروث على أنغام أغنية المحبوبة « يا أم العيون السود». وأمام بهاء اللحظة وانتشاء الحواس، لم يتمالك الجمهور نفسه في طلب إعادة ثانية للأغنية والرقص والسرور... فلبّى صاحب الحفل نداء عشاق صوته مزهوا بلهفة جمهوره لفنه فإذا به يخرج من ثوب الفنان الخجول والوقور ليتمايل بخطواته وجسده على الر كح تفاعلا مع وابل التصفيق وتحايا الإعجاب.
وفي زمن عزّ فيه إنتاج الأغنية الوطنية وتزامنا مع مناسبة عيد الجمهورية، احتفى عدنان الشواشي بتونس والوطن، كما استضاف في سهرته الفنانة رحاب الصغير لتؤدي أغنية «طموح» من كلمات منور صمادح وألحان عبد الرحمان العيادي.
وبعد ليلة من السمر والسهر غنّى لنا فيها عدنان الشواشي من بين ما غنّي «الليلة الليلة» التي اختارها الراحل نجيب الخطاب لتكون أغنية جينيريك منوّعته «لو سمحتم»... حان وقت المغادرة بعد أن دقت ساعة منتصف الليل ، فكانت مغادرة المدارج على أنغام أغنية «كبرت والله كبرت» لنردد في سرّنا : أنت لم تكبر يا عدنان... فالكبير يبقى كبيرا.