فنان كبير كانت له بصمته في الدراما ومكانته في الذاكرة. سنة 1982 كتب حسين محنوش نص «مملكة الذهب» ليبعث في جسده الروح سنة 2019 حيث أخرج شخصياته من حيّز الحبر والورق وجعلها كائنات حيّة تجوب الركح وتصدح برسالة المسرح.
في فلك ثنائيات الحياة والموت، الهزيمة والنصر، اليأس والأمل تدور مشاهد مسرحية «مملكة الذهب» التي صافحت جمهور الفن الرابع في عرض أوّل بمهرجان الحمامات الدولي في سهرة 17 جويلية 2019.
الملك الغبي مصيبة الشعب
هي حكاية ملك كأغلب ملوك سالف العصر والأوان وهذا الزمان، يعشق سطوة الكرسي ويلهث وراء سلطة المال والثروة. هذا السلطان المستسلم لرخاء كرسيه ورفاهة قصره لا يلبث أن يستعين بالسحرة لتسخير الجان والشياطين ليجعلوا ما بين يديه غنيمة لا تعد ولا تحصى من الثروة حتى تصبح مدينته مملكة الذهب.
أمام هذا الهوس إلى حد الجنون بامتلاك الثروة الطائلة بلا تعب ولا عمل، لا يتواني الملك عن إحاطة مجلسه بالدجالين والمشعوذين وجعل كبير السحرة مستشاره المقرب الذي يصول ويجول في القصر على أمل أن تتحقق رغبة السلطان في امتلاك ثروة الذهب.
في المقابل، تظهر أم الملك كصورة مناقضة لحضور الساحر لتحذّر ابنها من مغبّة الاستسلام إلى وهم الأباطيل وزيف الطلاسم وخداع تعاويذ الأسحار... في تذكير له بمجد المملكة الغابر والذي عرفت فيه النماء والرخاء في عهد جده الأوّل بفضل سواعد العمال وعقول العلماء.
وفي نهاية المطاف، ينقلب السحر على الساحر، ويلقى الملك حتفه على يد الساحر المخادع الذي تلاعب طويلا بعقل الحاكم الغبي وعبث بلا هوادة بحياة شعب ومصير وطن.
مسرح كلاسيكي بلمسة معاصرة
في «مملكة الذهب» تلوح ملامح المسرح الكلاسيكي بكل مظاهرها لتشي برغبة المخرج حسين محنوش في الوفاء إلى خصائص هذه المدرسة المسرحية لكنه لا يلبث أن يدرج لمسات المسرح الحديث على ركحه. فإذا بالحوار المنطوق باللغة العربية الفصحى تتخلله لوحات من الرقص المعاصر أحيانا والموروث الشعبي في مواقع أخرى على غرار الدبكة... وهنا يحسب للكوريغرافيين من الشباب اجتهادهم الواضح في تصميم لوحات راقصة تحاكي العمق الدرامي لتحولات النص المسرحي من جوع وقمع وانتفاضة وثورة...
كما جاءت الموسيقي بلا مرجعية محددة فمرّة تأتينا بروح الشرق ومرة أخرى تهل علينا بهوية الغرب... وهكذا كانت «مملكة الذهب» مسرحية «لا شرقية ولا غربية».
وبالرغم من تمكن صاحب النص والمخرج حسين محنوش من مفاتيح الكتابة بلغة الضاد فإن ذلك لم يشفع له على ركح مسرحية «مملكة الذهب» من ارتكاب بعض الهفوات اللغوية والنحوية كالتكرار السمج لبعض الجمل التي تقترب من اللهجة الدارجة اليومية.
السينوغرافيا والأداء في الميزان
ركح فقير من بذخ المتممات الركحية بإستثناء كرسي لامع اللون وبرّاق الصفرة كسبائك الذهب لملك يهوى الذهب. ربما كان هذا خيار مدروس للدلالة على واقع مدينة جدباء وجرداء يسودها القحط والبؤس وشظف العيش...
وقد اتسم نسق تغيير الديكور والانتقال بين المشاهد بالتعثر في أحيان كثيرة حيث غابت رشاقة التحرّك والتصرف وحضر الارتباك والاضطراب...
وكان أداء فريق التمثيل متفاوتا من حيث الإقناع في المسرحية حتى بدا البعض مجرد مردد لنص حفظه عن ظهر قلب، لكن الممثل أنس العبيدي قد فرض هيبة الظهور على الجمهور في دور المهندس الحالم ببناء سد يروي المدينة ويبدل جفافها خصوبة... فنجح في شحذ همم الرعية وحث السواعد على البناء والتشييد في صراع ملحمي ضد قوى الجذب إلى الوراء وفي مواجهة الملك الذي يخاف أن يفتك المهندس العالم والعارف منه السيادة. ولئن بدا هنا تقاطع ما بين سد محمود المسعدي وسد حسين محنوش، فقد نفى مخرج «مملكة الذهب» تأثره بهذه المسرحية الذهنية مشيرا إلى أنه استمد مرجعية نصه من الواقع ومن قصص عاشها.
في عرضها الأوّل كانت «مملكة الذهب» تتأرجح بين النجاح والإخفاق، ولكنها تحمل في كنهها بذور الجودة وتباشير التميز شرط إعادة الاشتغال على مواطن الضعف فيها وتثمين نقاط قوتها كتوقيع يليق بمكانة وقيمة الفنان حسين محنوش.
المخرج حسين محنوش:
الدعم الهزيل أثّر على جودة المسرحية
لئن كان التواضع من شيم الكبار فإن قبول النقد البناء من صفات الفنان الكبير حسين محنوش الذي وعد بأخذ الملاحظات والانطباعات مأخذ الجد مشيرا إلى العرض الأول دائما ما يكون اختبارا وامتحانا لمدى تفاعل الجمهور مع العرض وإصلاح ما يمكن إصلاحه.
وأرجع حسين محنوش أسباب هنات العرض الأول لمسرحتيه «مملكة الذهب» إلى ظروف التمارين قائلا: «لقد تحملنا مشقة الانتقال من الكرم الغربي إلى دار الثقافة حلق الوادي حيث قامت المديرة بطردنا من هناك ثم استقر بنا المقام في دار الثقافة قرطاج الياسمينة. كما إن الدعم الهزيل الذي لم يتجاوز 30 ألف دينار كان لا يكفي مجرد أجرة خلاص حوالي 24 فنانا من الممثلين والكوريغرافيين مما أجبرنا على سياسة التقشف المريرة وأثر على جودة العمل».
وأكد حسين محنوش أن مسرحيته تنسحب على واقع كل الأوطان العربية والشعوب المضطهدة حيث تدعو إلى العمل أولا وأخيرا كسلاح للتغيير وجسرا لمستقبل أفضل.