روضة ليلة القدر

قال - تبارك وتعالى إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ

فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْر (القدر: 1 - 5)
وقال - سبحانه وتعالى إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (الدخان: 3، 4).

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تَقدَّم من ذنبه"؛ متفق عليه.
وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قلت: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرأيت إن علِمتُ أيَّ ليلةٍ ليلةُ القدر ما أقول فيها؟ قال: "قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعفُ عني"؛ رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح

أي روضة هذه؟ عن ماذا نتحدث؟! ماذا نَصِف؟ وماذا نقول؟ فمهما قلنا لن نؤدي حق هذه الروضة، ولن نَصِل إلى منتهاها أو نَصِف كُنْهها!! إنها ليلة القدر وصدَق الله  وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْر (القدر: 2).
ليلة هي سيدة الليالي وتاج رأسها، وموقع فخرِها بلا خلاف، فإن فخرتِ الأيام بيوم عرفة أو يوم النحر، فإن الليالي تفخر بليلة القدر بلا مُنازِع ولا ارتياب، فهنيئًا لمن كان من أهلها! فما كلُّ مَن مرَّت عليه صار منها، فلها أهلون خاصون.

ليلة القدر الحديث عنها مهما طال فهو قليل؛ لأنها كثير وكثير وكثير، ويكفي في كثرتها أنها خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْر (القدر: 3)، فالأجر فيها كثير، والخير عميم، والرحمة مُضاعَفة والقلوب مُقبِلة على مقلِّبها، فسبحان من إذا أعطى فلا حدَّ لعطائه، كما أنه إذا منَع لا معطي لما منع.
إن تحدَّثنا عن أهلها؟! ففيها أهل السماء ضيوف عند أهل الأرض، وأهل الأرض قلوبهم نحو العرش، فالاتصال بين السماء والأرض على أقوى ما يكون من غروب الشمس حتى مطلع الفجر.
ليلة القدر روضة القلوب، ومغسَلة الذنوب، وسجن العيوب، وحبْس الهوى، فالكون في سلام؛ فـ سَلَامٌ هِيَ (القدر: 5)، وسلام عليها وفيها ومنها.

روضة هي أعظم باب لنيل أرفع الدرجات، وللفوز بأعلى المقامات، فهي تاج الشهر كما الشهر تاج الشهور، والعشر تاج الليالي، وهي على الرأس من ذلك كله.
تمام الكمال، وأعلى غاية الإكرام ونهاية الإحسان، وخِتام الإفضال من رب السموات، فالحمد لمن اختصَّ هذه الأمة بمزيد التشريف والتكريم.

روضة ليلة القدر هِبة الله - تبارك وتعالى - لمن جاء بقلبه ورُوحه وعيونه يتقلَّب فيها على أي جنب، فهي كلها خير بين صلاة ودعاء وبكاء وتسبيح وتهليل وتحميد وتوبة وقيام وتهجُّد واعتراف.
روضة ليلة القدر حياة أو ميلاد القلوب من جديد ومفتاح الحياة بالإيمان إن أغلقته المعاصي والذنوب، فهنيئًا لمن وُفِّق إليها وفاز بإدراكها، فحرص واجتهد فما كلُّ مُدرِك فائز.

روضة مهما اجتهدت فيها فهو قليل، ولكن قليل العمل فيها كثير، وفيها من الأجر ما يعجِز عن حسابه العادُّ، و"ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ "المائدة: 54"

هذه الليلة لا يُفرِّط فيها إلا مخذول أو معذور، أو محروم أو غبيٌّ لا يدري ما فضلها ولا قدْرها، إذ لا يليق بالعارف اللبيب الراغب بما عند الله الباحث عما يُقرِّبه من الله أن تَمرَّ عليه هذه الليلة كسائر الليالي، وكأنها لا تَعنيه أو كأنه غني عما فيها من الخير العظيم والفرصة الكبيرة.

وهذه الفرصة تُرتجى ويتأكَّد وجودها في العشر الأواخر وفي الوتر منها آكد، وفي ليلة السابع والعشرين على وجه أخصَّ، فلو اجتهد الراغب المحبُّ الباحث في العشر حتى لا تفوته فما خسر، وكم مرت من عشر وعشر بل سنوات وسنوات فلا يستمر في التضييع من العشر بين يديه والفرص لا تعود.

وليلة القدر عالية القدر ترفع لصاحبها القدرَ، ولها علامات تدلُّ عليها بعدها ولا علامة سابقة لها حتى يتقدَّم الحرص في طلَبها والاجتهاد في البحث عنها وتحرِّيها، ومن أبرز ما فيها من علامات مباشرة أن النفس تنشرِح للعبادة والقلب يَطرَب والرُّوح تخف في تلك الليلة، والموفَّق مَن وفَّقه الله.

وأخيرًا، روضة ليلة القدر انفصال عن الدنيا والعيش ليلة أخروية بعيدًا عن ضجيج الدنيا وأهلها، فالقلب متَّصِل بالله يُرفرِف ويستنشق رحيقَ الإيمان من ركعات وسجدات وتلاوات ودعوات ودمعات في لحظات يشعر فيها بحياة أخرى، ويتحقَّق عنده معنى نعيم لذَّة المناجاة التي تحدَّث عنها عبَّاد السلف - رحمهم الله.

اللهم وفِّقنا لقيام ليلة القدر، وارزقنا خيرَها وخير ما فيها، واجعلنا ممن يقومها إيمانًا واحتسابًا.

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115