مسرحية «العشاء الأخير» لحسام الزريبي: الحالمون على الأرض لا يمكن ترويضهم أبدا

يحلمون ليبدعوا، ينحتون في حجارة الظلم والضيم ليتميزوا، من العدم يصنعون الأمل ويحيكون تفاصيله

في ثوب مسرحي مزركش يقيهم قر العائلة وقيض المجتمع وقساوة الواقع، يحلمون وعلى الركح يحققون الحلم بالكلمة والحركة، يتصالحون مع ذواتهم بالمسرح لان المسرح عندهم حياة وحركة وولادة متجددة وبالمسرح يحولون الموت إلى حياة.
تلك هي رسالة مسرحية «العشاء الاخير» سينوغرافيا واخراج حسام الزريبي وهي عن جدارية محمود درويش ونصوص للكاتب نصر سامي من من إنتاج نادي المتنفس للمسرح والفنون الركحية بدار الثقافة بالرقاب، تمثيل أنيس عكرمي وطه كدوسي وحمة جلالي وعبير عبيدي وفردوس عيوني وبدر عبيدي وشذى حامدي وطاهر حميدة وراسم ميساوي ونورة صالحي وأسامة قاسمي ورتاج جبابلي وتوظيب وانارة وصوت نوفل لعيوني وملابس لفردوس لعيوني.

السينوغرافيا في خدمة الرمز والرمزية
موسيقى هادئة رقيقة موجعة كأنها نحيب القلوب المستضعفة، ضوء احمر كلون الدماء القانية، دماء نعيش على وقعها في كافة الدول العربية، دماء تنطلق معنا منذ الطفولة دماء الختان، دماء الزواج، دماء ليلة العرس، دماء الحرب، دماء التقتيل باسم الرب وأخرى باسم الشرع وثالثة باسم الانسان، دماء ودماء جسدها المخرج بموسيقى النواح واللون الاحمر الداكن كما الدماء المتدفقة وكلمات للمثل يسرد فيها تاريخنا الدموي منذ الولادة الى الموت ففي هذه المجتمعات جميعنا قاتل وكلنا مقتول و «الكل تقتلوا وقتلوا».

يشتعل الضوء تدريجيا لتظهر للحضور سبعة كراس على الركح بعضها محطم وآخر شبه سوي منذ المشهد الاول يحملك المخرج لتبحث في رمزية الكرسي فهو عنوان السلطة والقوة والتسلط احيانا، الكراسي الموجودة على الركح التي تتسابق اليها الشخصيات وسط العمل اما للجلوس او لإبعادها هي رحلة الباحثين عن السلطة وصعود درجاتها وإلغاء كل ما يعترضهم في سبيل الحصول على الكرسي، هو صراع الانتخابات للحصول على الكرسي ايضا ومعه الحصول على السلطة التي يجسدونها في ابتسامة رضا متى جلس أحد الممثلين على الكرسي ويتمسك به رافضا تركه وعن الكرسي يقول نص العمل:

في البدء كان الكرسي
ثم خلق المكرسون
وكان الخشب والمجسمات والأجسام
الكرسي صديقنا الأكبر
اكبر من أداة
وأعظم من غابة

الكرسي قد يكون ماديا أو فكريا قد يكون الغاية أحيانا فالكرسي في هذا الوطن تعلة لوضع «عساس عالعساس»، «عساس عالفكرة» «عساس عالفرحة والحرية المسلوبة».

في «العشاء الأخير» تبهرك السينوغـرافيا، يتماهى الضوء مع الموسيقى لتسطيـــر الاحـــداث الدارميــة للمسرحية، السينوغرافيا جزء اساسي من الحبكة والحكاية المسرحية مطية لتغيير الحدث و ايصال الفكرة الى المتفرج قبل كلمات الممثلين، بالموسيقى نقدوا المجتمع الرافض للفنون «المسرح مات» كما تقول الشخصية التي تضع أنف الكلون، ينقدون المجتمع الذي يميز بين حقوق الانثى والذكر «ما العيب في ان أدخن ما العيب في الشرب» كما تتساءل احداهن فتكون الاجابة من احدهم «استغفر الله».

بالضوء يغوصون الى الداخل الى عمق تونس الى الرقاب وكل المناطق الداخلية لينقدوا بؤس الواقع من خلال مشاهد الموت فهناك يعيشون الموت اليومي هناك لا وجود للمتنفس والامل فالموت يخيم على الوجوه والأمكنة ، الموت المعنوي بسبب التهميش غيابات الثقافة فدار الثقافة الرقاب مثلا لازالت تحت الاشغال وكل تدريبات النوادي تتم في الركح الاسمنتي فأينما وليت وجهك وجدت لون الاسمنت المقلق قلق صنعوا منه عملا مسرحيا مميزا.

في اطار الرمزية ايضا غابت لأسماء عن الممثلين فهم شخصيات دون اسماء ونفي الاسم هو نزع للصفات التي يفرضها الاسم على الشخصية نفس التضييق وحصر الشخصية في زاوية وفعل ما ففي العشاء الاخير كل الشخصيات دون اسماء ستجدك في احدها او كلهم لأنهم ينفتحون على الانسانية.

المسرح ولادة وحلم ونحن نولد يوميا
المسرح تمرد، المسرح عملية خلق من العدم، في المسرح يمكن بعث الحياة في الارواح الميتة والأفكار المنتهية والنفوس المثقلة بالهموم، المسرح نحت في صخور التهميش وتحويلها الى اعمدة للنور تضيء مسارب الشباب هناك، على الركح تميزوا، اعطوا «من روحهم» لايصال الفكرة والعمل، ففي العشاء الاخير لهم قدرة على تحويل المآتم الى افراح، السواد يصبح بياضا والالم يتحول الى الامل عبر الفنون وتلك هي رسالة العمل، زرع الامل في المشاهد، نقد يخلفه امل في القادم.
انطلاقا من قول درويش في جداريته»سأحلُمُ ، لا لأُصْلِحَ مركباتِ الريحِ
أَو عَطَباً أَصابَ الروحَ
فالأسطورةُ اتَّخَذَتْ مكانَتَها / المكيدةَ
في سياق الواقعيّ . وليس في وُسْعِ القصيدة
أَن تُغَيِّرَ ماضياً يمضي ولا يمضي
ولا أَنْ تُوقِفَ الزلزالَ
لكني سأحلُمُ ،
رُبَّما اتسَعَتْ بلادٌ لي ، كما أَنا»

يحلمون ويكتبون تفاصيل الحلم على الركح ، الملابس مختلفة تجمع كل الألوان الابيض الصافي كلون السلام و الاحمر لون الحب والأسود والأزرق الجميل جميعها الوان تحضر في العمل لتخرجه من السوداوية.

فالعمل يطرح السؤال عن المواطن في ظل التغيرات التي عاشتها تونس والمنطقة العربية، يشير الى الازمات العديدة التي مر بها المواطن والتصنيفات التي تتبعه، مواطن درجة اولى، مواطن درجة ثانية مواطن «ولد وعاش في القطن» وغيرها من التصنيفات التي قد تؤثر سلبا على الانسان لكن بالمسرح يمكن تقويض كل هذه التصنيفات ونشر الامل عند الشباب خاصة ليقبل على الحياة ويحاول كسر كل القيود التي قد تعيق ارادة النجاح التي تسكنه،وللمسرحية رهان إجتماعي يطرح بشكل أو بأخر نوعا من الصلابة و المقاومة عوضا عن الإستسلام لنوازع الشر الكامنة في نفس كل إنسان.

المخرج حسام الزريبي:
نحلم بالفنون
حسام الزريبي مخرج مسرحية العشاء الاخير خريج المعهد العالي للموسيقى والمسرح بالكاف وأصيل معتمدية الرقاب من ولاية سيدي بوزيد يخوض في المنطقة الجرداء تجربة مسرحية فريدة ومميزة اثمرت مسرحية فازت بالجائزة الاولى وطنيا في مسابقة دور لشباب والثقافة فنان يؤمن بقدرة المسرح على التغيير ويقول عن تجربته مع ابناء النادي الحالمين بممارسة الفن الرابع:
أزرعلهم فى قلوبهم قلب أبيض صافى كى الياسمين
أوقف...حل عينيك و تبسم
ريحة الفرحة تنسم
فى هاك الظلمة أخلق نجمة
عاود إبنى معاها حلمة
حلمة تضوي و ما تطفاش
أخلق فرحة
إبنى حاجة مزيانة ما تتنساش

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115