في المسابقة الرسمية لأيام قرطاج المسرحية: «تقاسيم على الحياة» تعزف على أوتار أمراض العقل العربي

«من لم يحرّكه العود وأوتاره، فهو فاسدُ المزاج ليس له علاج»... فليس من الغريب أن تهزّنا «تقاسيم على الحياة» وهي تعزف

على الركح نزف الجرح وصرخة الوجع واختلاجة الموت وانتفاضة الحياة... لم تكن مجرد مسرحية بل كانت مرثية للمسرح انبثقت من رحم المسرح ذاته وملحمة وجود وأنشودة الإنسان على إيقاع الفرح ونبض غريزة البقاء رغم معالم الفناء...  أليس بوسع الفن أن يستعيد الإنسان في اللحظة الحاسمة؟
«تقاسيم على الحياة» مسرحية من إخراج العراقي جواد الأسدي الذي اقتبس نصّها عن قصّة « العنبر رقم 6» للكاتب الروسي «تشيخوف». وقد صافح هذا العرض جمهور قاعة الفن الرابع ضمن المسابقة الرسمية لأيام قرطاج المسرحية 2018.

عرض تجريبي مسكون بالسؤال
هو ركح يلبسه الحديد ويتلبّسه الظلام... تجلّت فوقه فصول «تقاسيم على الحياة». فإلى مستشفى للأمراض العقلية يأخذنا المخرج العراقي جواد الأسدي في رحلة مسرحية تعتصر الألم فينا ولكنها لا تلبث أن تحيينا ببارقة من الأمل. في سواد الخشبة التي تطوّقها الجدران الحديدية يلوح شعاع من النّور ليبدّد غربة الأجساد والأرواح في مكان علاج الاضطرابات النفسية بعد أن ضاقت الحياة عن استيعاب أوجاع مرضاه وأمراض المقيمين فيه، فبعضهم اقتيد إلى هذا المستشفى والبعض الآخر اختار عن طواعية الالتحاق بالمكان علّه يكون أقل قسوة من الخارج.
في حوار منطوق اعتمد اللغة العربية الفصحى وحافظ على مناخاته «التشيخوفية» بأسمائها الأجنبية... باحت شخصيات مسرحية «تقاسيم على الحياة» بفلسفة وجود وملحمة حياة فرّقتها الحرب ومات فيها الحب.
لا يختلف وضع المستشفى في «تقاسيم على الحياة» عن تلك الصورة الراسخة في أذهاننا عبر صفحات الروايات وشاشات السينما عن مرضى مساكين في مظهر بائس يعبثون بتفاصيل يومهم كما عبثت بهم من قبل سخرية الأقدار... سجن أم مستشفى قد لا يختلف الأمر كثيرا ، فالقضبان واحدة والحرية مفقودة في كلتا الحالتين !

رثاء للمسرح في العراق
فيلسوف وفنان ورجل اقتصاد... تتعدّد الشخصيات الموجودة في مستشفى الأمراض العقلية وتتنوّع قصصها التي ألقت بها في النهاية في المكان ذاته، في المصير ذاته...
أمام كل شخصية يسرد علينا المخرج جواد الأسدي حكاية تأخذنا إلى قاع المدينة الملطخ بآثار الجبن والقهر والفقر ... وتتجوّل بنا في حضيض الواقع الذي يعرّينا من زيفنا وتنميقنا للحقيقة أمام انهزام واستسلام للقدر المحتوم وللقدر والديكتاتورية في شتّى وجوهها...
هي العراق المهزومة والمنقسمة والمتآمر عليها التي أخرجت مجتمعا مريضا ومهموما بعد أن كانت منذ عصور أمّ المكتبات وسيّدة المسرح وعاصمة الأدب والشعر والمعرفة.
وحتى يخفّف علينا المخرج قتامة الأجواء والإضاءة فإنه مرّر لنا من بين نصها المثقل بالشكوى والبوح قطعا من الإضحاك وشذرات من الابتسامة، وحتى تريحنا المسرحية قليلا من عبء المسؤولية في تبنّي فصولها واقتسام وجع شخصياتها فإنها تعزف لنا أحيانا ألحانا جميلة «على تقاسيم الحياة».

الحكمة في عقول المجانين
ليس «العنبر» أو مستشفى المجانين في مسرحية «تقاسيم على الحياة» سوى صورة مصغرة عن الوجود العربي. وليست شخصياته سوى نماذج عن العقل العربي المختلف في تركيبته والموّحد في طبيعته... هو العقل المريض بأوهامه وعقده وتردده الذي أنتج بدوره وجودا عربيا مرتبكا بقلقه ومنشطرا بتصدّعاته التاريخية والمعرفية والثقافية... فإذا بهذا العرض يضعنا وجها لوجه مع أنفسنا وهواجسنا وحيرتنا الوجودية.

في «تقاسيم على الحياة» تتجسد معاناة المسرح في شكل مرثية لاحتضار الفن الرابع في المجتمعات العربية وخصوصا المجتمع العراقي الذي ألهته الصراعات الطائفية والاختلافات الدينية عن الإقبال على أب الفنون.
وبالرغم من قتامة الوضع وتأزم العلاقة بين المسرح والجمهور فإن «تقاسيم على الحياة» تقدم وصفة علاج بمنطق «داوني بالتي هي الداء والدواء» بمعنى أن المسرح كان هو اللغة والمنبر والوسيط الذي دعا فيه المخرج إلى استعادة العلاقة المتينة بين الجمهور والركح وإعادة حبل الوصال إلى ما كان عليه قبل «نكسة» العراق.
ومثلما يعجّ السجن بضحايا أبرياء ومظلومين قد يحدث أن يأوي مستشفى المجانين عقلاء في ثوب المضطربين نفسيا وحكماء في صورة مختل عقليا ... ففي نهاية المسرحية يكتشف الطبيب المعالج « أندريه» أنه بدوره ليس شخصية سوّية وحاله لا يختلف كثيرا عن حال مرضاه ! فكثيرا ما تسكن الحكمة في عقول المجانين !

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115