وخسرت تونس هذا الصوت الذهبي إلى الأبد؟ كانت حادثة وفاة أشبه بالملحمة وقصّة حياة أقرب إلى معركة «سيزيفية» مع الموت... كان فيها حسن الدهماني بطلا تراجيديا يجترح من المأساة ملهاة ويبتدع من الدمعة ابتسامة ليسعد قلوبا ويضحك عيونا ويزّف الفرح إلى المهمومين والمغرومين، العشاق والحيارى...
في صوته شجن وفرح وهدهدة شعور... وهو سيّد السلطنة والطرب والمواويل. في حياته ظلّ وفيّا لخياراته رغم الإغراءات وتبّدل المقامات وهو الذي كانت قدوته وديع الصافي وصباح فخري وغيرهم من عمالقة الفن. وحتى في موته بقي فنانا من الزمن الجميل، وهل أجمل من موت على طريق الفن في الرحلة المتعبة، الممتعة إلى الركح والجمهور وإن كانت أحيانا قاتلة!
مناورة ملحمية مع الموت
بعد أن خاتل الموت وراوغ المنيّة في مواجهة مباشرة أثناء حادث قاتل تعرّض له يوم 7 فيفري 2017 على مستوى طريق المرسى، انتصر حسن الدهماني على الردى وعانق الحياة في ميلاد جديد ولو كان ثمن هذا الإصرار على البقاء ضررا على مستوى العين.
كم هو لعين الموت وحقود ولئيم... فلم يرض بالهزيمة ولم يأب أن ينتصر عليه حسن الدهماني فوسوس له شيطانه بالانتقام وردّ الهزيمة ولو غدرا وتحت جناح الظلام ! بعد الحادث الخطير الأول، ظلّ الموت يتربص بالفنان الكبير ويتعقّب طريقه مع سبق «الإصرار والترصد» في تواطؤ مع «غول الطريق» ذات ليلة ظلماء بكى فيها القمر وانتحب فيها الشجر ... وهذه المرة رحل حسن الدهماني وصعد صوته إلى السماء في شكل بلابل وعنادل وعطر ياسمين.
غبيّ هو الموت إن ذهب في ظنه أنه هو من ربح في النهاية، فبالرغم من خسّته ونذالته لم ينتصر ! لقد رحل حسن الدهماني وهو في طريقه إلى أجمل مواعيده وأقرب اللقاءات إلى قلبه: موعد مع الفن ولقاء مع الجمهور.
لا توبة عن الفن إلى الممات
حتى في موته كان بطلا وهو الذي مات شهيدا للفن وهو في طريقه إلى كسرى من ولاية سليانة لإحياء حفل فني والتحليق مع عشاق صوته على أجنحة النغم والحلم.
قد تكون «أنا قلت نتوب» آخر أغنيات الراحل حسن الدهماني التي لم يحد فيها عن مبادئه الموسيقية وخياراته الفنية وهو الذي أعجب به لطفي بوشناق ولحن له أغنيات البدايات التي كانت فاتحة طريقة نحو قلوب الجمهور وأثنى على صوته فقيد الطرب العربي وديع الصافي ولقبّه جورج وسوف بـ «سيّد الطرب العربي».
بالرغم من الخطر والضرر جراء الحادث الأول لم يتب حسن الدهماني عن عشق العود وإدمان الطرب فعاد كطائر «الفينيق» واعدا بالجديد وباللحن الجميل . ومضى في طريق الفنّ مقتفيا أثر الأغنيات التي بها يطرق أعتاب المهرجانات من الباب الواسع وبكل استحقاق و هو صاحب الصوت الطربي والشجي الذي يحتضن الطبقات العالية والقوية ويتسع للخامات البعيدة والعميقة.
غاب حسن الدهماني وشيّعه إلى مثواه الأخير البسطاء قبل الأسياد والفقراء قبل الأثرياء والجمهور قبل الزملاء، فمن عرفه عن قرب أو من بعيد يشهد بأنه كان فنانا إنسانا، جميلا صوتا وأخلاقا... وكأننا في جنازته بالكمنجات تعزف لحن الوداع والأغنيات تبكي سيّدها وقد بقي الطرب من بعده يتيما وقد فقد أحد أبائه القلائل الذين باتوا يعدّون على الأصابع في زمن الرداءة والسخف والعبث.
مذهب في الفن لا يتبع أحد
رحيل حسن الدهماني ليس موت فنان محترم في زمن العهر والقهر وانتهى الأمر، بل هو انهيار في أسس بيت الأغنية التونسية الأصيلة واختلال توازن في ميزان الهوية الموسيقية ببلادنا التي يغيب أعلامها يوما بعد يوم وتتساقط أوراق شجرة عائلاتها لتبقى من دونهم جرداء وعرجاء... هي الخسارة الكبرى التي قد لا تعوّض فلم يكن حسن الدهماني يشبه أحدا غيره ولا هو واحد من مطبّلي الجوقة ولا عنصرا مكمّلا في الفرقة بل كان فنانا له حنجرة من نوع خاص ومذهب في الفن لا يتبع أحدا وثبات على المبدإ رغم تبّدل الأحوال وانقلاب الأيّام.
ودعنّا حسن الدهماني بعد أن كتب له القدر تفاصيل رحيل مشرفة زادت علاقته بالفن التصاقا وحميمية حدّ الموت. ليكون له الفخر وحسن الذكر ويكون لنا العزاء في «طقطوقات» من السلطنة والطرب وأغنيات عذبة اللحن و الكلمات والآهات تركها لها الفنان الكبير وديعة وأمانة وذكرى لا تنسى.