في قصصه الشعبي بالجزائر، لا تنصب على البعد السيكولوجي له ككائن حي، أو على أنها عنصر مؤنسن، ولكن كعلامة لسانية أولا، وعلامة دلالية موضوعاتية ثانيا، لا تبرز قيمتها إلا من خلال السياق الأدبي الذي تنتظم فيه، ومن خلال المراجع التي تحيل إليها ضمن مخيال ثقافي جزائري عربي.
وتجدر الإشارة، في هذا السياق، إلى أن صورة الطفل في أدبه كشخصية بشرية تكاد تكون نادرة الحضور، حيث تهيمن عليه صورة الشخصية الحيوانية والخرافية، وذلك لأغراض فنية وتربوية.
ما يهمنا، إذن، في هذه البحث هو تحديد صورة الطفل الجزائري في القصص الشعبي الموجه له، من خلال دراسة أربع قصص هي: «بقرة اليتامى»، «لونجا»، «الملك والفراشة»، «الأمير والحمامتان»، وهي قصص يؤدي فيها الطفل ادوار الشخصية الرئيسة، فما هي الصورة التي حضر من خلالها الطفل في هذه القصص وهل هي صورة تبني شخصيته وتنمي مداركه ووعيه وقدراته وتعده للمستقبل أم أنها صورة تجاوزها الزمن، وبالتالي فهي تضره أكثر مما تنفعه؟
من اجل الإجابة على هذا السؤال نعمد إلى تقديم ملخصات وجيزة لهذه القص، ثم تفكيك البنية السردية لها وتحديد صفات شخصية الطفل القصصية كما هي واردة في المتن، حسب متغيرات: الجنس والمستوى الاجتماعي والصفات والهدف، وإخضاعها للتحليل والتأويل الموضوعاتي.
• أولا ـ الملخصات:
تجدر الإشارة أن هذه القصص استمدها مؤلفها رابح خدوسي من التراث الشعبي الجزائري، وهو أستاذ التعليم العالي بجامعة الجزائر، وقد صدرت عن مؤسسة الشهاب للنشر والتوزيع بالجزائر في أواخر التسعينات.
1 ـ قصة: بقرة اليتامي: تروي هذه القصة معاناة الطفلين ظريف ومرجانة بعد وفاة أمهما وزواج الأب، وتعرضهما إلى قسوة زوجة الأب و ظلمها، حيث يعيشان بذلك الحرمان العاطفي والاجتماعي في اقسي صوره، وفي الأخير تتزوج مرجانة بالملك وتكوّن عائلة وتعوض كل ما عانته هي وشقيقها من عذاب وحرمان.
2 ـ قصة: لونجا: تحكي هذه القصة حكاية الفتاة لونجا بنت الغولة، التي كانت حلم الشباب، حيث يروى أنه في احدى نواحي قلعة عظيمة كان يعيش الملك و زوجته و ابنه «زهار» الشجاع، و كان للملك شقيق فقير يدعى شقران سكن قلبه الحقد، ففكر في حيلة لاغتصاب ثروة أخيه فدبر مع «الستوت» التي أخبرت الأمير»زهار»، عن لونجا الفتاة الجميلة التي تسكن في أقاصي المعمورة، وحركت في قلبه حبها، حتى أصبحت شغله الشاغل. سافر «زهار» في طلب «لونجا» وتمكن من الوصول إلى مكان إقامتها بفضل توجيهات الشيخ «المدبر»، ونصائحه وبفضل شجاعته، واستطاع أن يخلصها من أمها «الغولة». هربت لونجا مع الأمير، وفي الطريق تصارع زهار مع النسور، فأخذه نسر كبير و طار به إلى بعيد. بحثت عنه لونجا طويلا ووصلت إلى القصر وعاشت هناك خادمة، إلى أن عاد الأمير زهار وتزوجا.
3 - قصة الملك والفراشة: تروي هذه القصة حكاية أمير وسيم ، بهي الخلق ، توفي والداه (الملك و الملكة) فتولى رعاية أخواته البنات السبع ، و ذات يوم خرج الأمير في رحلة استطلاعية، وأثناء غيابه قام سبعة وحوش باختطاف الأخوات الجميلات. فتحولت فرحة الأمير لما قد رأى من عجائب الدنيا إلى حزن، وقرر الخروج للبحث عنهن، و بينما هو غارق في هم و غم لمح في الأجواء حمامتين بديعتين، فقفز ليمسك يهما لكنه عجز، فلقد طارتا بعيدا ، و بعد حين ألتفتت واحدة قائلة وهي تبتسم: أيها الحائر... أن أردت أن تمسك بنا أو لقائنا عليك بإتباعنا إلى قصر والدنا وهناك يكون ما تريد، لاحق الأمير الحمامتين لكنهما سرعان ما اختفتا. واصل الأمير سيره في طريق طويل، حيث صادف صخرة في شكل هندسي مريع، فزع و تردد في الدخول، ثم قرر طرق الباب. وهناك وجد أخواته، وتمكن في الأخير من الزواج من الحمامتين اللتين تحولتا إلى فتاتين جميلتين. وعاش الأمير مع زوجتيه وحاشيته في سعادة وهناء.
4 - قصة الأمير والحمامتان: تروي هذه القصة حكاية ملك عادل، أراد تزويج ابنته الأميرة « كنزا» فاهتدى إلى فكرة إجراء امتحان لخطابها، و جاء اليوم المنتظر وكل شاب يريد الفوز، جلس الملك وقد علق على الكرسي جرابا به السر الذي يمكن كاشفه الزواج من الأميرة. باءت محاولات الخطاب بالفشل، غير أن شابا وسيما أراد أن يجرب حظه و كله ثقة بنفسه، ما إن رأته الأميرة حتى أعجبت به و دلته عما بداخل الجراب بإشارة توحي بان السر هو وردة حمراء. اكتشف الشاب السر، ففرح الملك و هنأ الشاب بفوزه و زوجه ابنته. ما إن اخذ الشاب عروسه « الأميرة» وغادر القصر حتى تحول إلى غول وهي صورته الحقيقية، فسجنها في قصره الحديدي. علم الملك بما جرى فحزن حزنا شديدا، وقرر أن يرسل إلى ابنته رسالة مع الحمامة الزاجلة. ولما عادت الحمامة إلى الملك وعرف مكان ابنته وحالتها وحزن وطلب إحضار «المدبر» فنصحه بان يستعين بأبناء العجوز السبعة الشجعان. امتثل الأبناء بعد أن حفزتهم أمهم العجوز لأمر الملك فعتقوا الأميرة من قبضة «الغول» وعادت إلى قصر آبيها وتزوجت من الشاب الذي أنقذ حياتها وحريتها.
• ثانيا ـ البنية الموضوعاتية السردية للمدونة القصصية:
التمفصلات: تبدأ هذه القصص باستهلال يهيئ الطفل لتقبل أحداث القصة، وبعض هذه الاستهلالات نجدها مستفيضة وطويلة ومملة مثلما نعاين في قصة « لونجا « وقصة «الأمير والحمامتان».
بعد هذا الاستهلال يبدأ السرد في نسج حلقته الأولى، المتمثلة في :
حالة فقدان:
يتجسد ذلك في فقدان الأمير الشاب لأخواته وللحمامتين الجميلتين في قصة «الأمير والحمامتان»، وفقدان الملك لابنته الأميرة في قصة «الملك والفراشة»،وفقدان الطفلين ظريف ومرجانة لامهما، في قصة «بقرة اليتامى».
ينقسم هذا الفقدان إلى نوعين :فقدان مادي يتمثل في: الأخوات والحمامتان، والأميرة، والأم، وفقدان معنوي يتجسد في الحرمان العاطفي. ويبدو أن الفقدان المادي هو القيمة المهيمنة تماشيا مع التفكير التشخيصي للطفل، إذ الطفل لا يفقه معنى الحب أو الأمن إلا من خلال التجسيد خاصة في مراحل الطفولة الأولى.
تطرح حالة الفقدان – هذه – مسافة بين البطل وما يرغب في الحصول عليه، ما يفرز تيمة الحب(حب الأمير لأخواته وللحمامتين على سبيل المثال) ويمكن أن ندرجها تحت عنوان:
البحث عن موضوع القيمة:
يتواصل السرد في هذه المرحلة عبر سلسلة من الأحداث في محاولات لإلغاء المسافة وتحقيق الرغبة، مثلما نجد في قصة الملك والفراشة:
تكليف الملك للحمامة الزاجلة بتوصيل الرسالة إلى ابنته المفقودة .استحضار المدبر. طلب المساعدة من أبناء العجوز.
وفي قصة بقرة اليتامى من خلال: بحث الطفلين مرجانة وظريف عن الغذاء والحنان المفقودين بفقدان أمهما عند البقرة.
وتوسلاتهما لزوجة الأب من اجل أن يحصلا على لقمة الأكل. تردد الطفلين على قبر أمهما. الوصول إلى كوخ العجوز الطيبة. الوصول إلى قصر السلطان.
ـ الحصول على موضوع القيمة:
التقاء الأمير بأخواته السبعة، وبالحمامتين وزواجه منهما في قصة الأمير والحمامتان.
عودة الأميرة إلى قصر الملك في قصة الملك والفراشة .
زواج مرجانة من الملك، وعيشها في هناء مع زوجها وابنيها وأبيها وأخيها وبهذا تكون قد عوضت كل ما عانته من حرمان أسري، مادي ومعنوي.
وقد كللت هذه القصص بنهايات سعيدة، انتصر فيها الخير على الشر، وهي نهايات تهدف إلى دعم المبادئ والقيم الخيرة في نفوس الأطفال، وجاءت وجيزة وسريعة ومرضية لأفق انتظار الطفل.
• ثالثا - تحليل المعطيات
لقد تميزت صورة الطفل كذكر في متون قصصنا المدروسة بالشجاعة والقرار والإقدام والصراع من أجل الهدف المنشود. وهي صفات ايجابية في مجملها. أما صورة الطفلة كأنثى فقد ركزت أكثر على عنصر الجمال والعاطفة(الفتاة مرجانة اليتيمة/الجميلة/ الحنونة على أخيها...الأميرة كنزا الجميلة/ العاشفة، الساذجة، التي وقعت بسهولة في حب الغول الذي تنكر في زي شاب وسيم). بهذه الملامح وهذه الأوصاف يمكن أن نقول أن االصورة التي حضرت بها الفتاة/ الطفلة في هذا المتن القصصي المستمد من التراث الشعبي، هي صورة يغلب عليها الطابع السلبي... ذلك أن حضورها في البنية السردية لايرقى إلى مستوى العامل الفاعل الذي يمتلك برنامجا وهدفا مثلما نجد ذلك فيما يخص صورة الطفل الذكر، وهو ما يحيل إلى واقع المرأة في المجتمع التقليدي القديم، هذه الصورة التي أصبحت مجرد
ذكرى بالنظر لما حققه المجتمع الجزائري من مساواة بين الجنسين من حيث فرص التعليم والعمل. لكن هذا التحول وهذا التطور لا ينفيان استمرار الذهنية البطريقية تجاه المرأة في المناطق النائية والتي تبقى معزولة إلى حد ما.ويمكن أن ندرج هذه الصورة للفتاة/ المرأة ضمن منظور ثقافي عربي، يتجسد من خلال المخيال، الذي نظرت به قصة «بقرة اليتامى» و قصة «الفراشة « إلى المرأة، إذ يبدو الجمال وحده مقياس هذه الأخيرة، وتبدو أدوارها منحصرة في الأمومة وإسعاد الرجل، كما تبدو قاصرة لا تستطيع الاختيار، مثلما حدث مع الأميرة بنت السلطان في قصة «الملك والفراشة»، التي انبهرت بالمظهر الخارجي، فاختارت شريك حياتها دون أن تفكر، وما ان أفاقت من حلمها حتى وجدت نفسها بين أحضان «غول»، فدفعت مقابل ذلك حريتها وسعادتها.
نستشف أيضا من خلال هذه السمات بعض المضامين الاجتماعية التي طرحت من خلال بعدي الخير والشر، وهي مضامين تحدد شبكة العلاقات الاجتماعية انطلاقا من الأسرة التي يترعرع فيها الطفل، ذلك أن هذه الأخيرة هي التي تحدد شخصية الطفل، ومن المؤكد أن الأسرة التي تسودها الصراعات تنشئ الطفل نشأة غير سوية، وطريقة تربية الطفل هي التي تحدد سلوكاته. لقد انطلقت هذه المدونة القصصية التي قمنا بدراستها من سلم قيم اجتماعية أسرية بما أنها الخلية الأساسية للمجتمع، لهذا فقد عالجت موضوعات الغيرة في قصة»الأمير والحمامتان «، والظلم في قصة «بقرة اليتامى»، لكنها لم تتطرق لأسباب هذه الظواهر التي قد يكون مبعثها الحرمان أو الفقر أو غير ذلك. فمفهوم زوجة الأب الذي أحالنا من خلال السياق النصي الذي جاء فيه في قصة «بقرة اليتامى» إلى الظلم والقهر، والذي برزت من خلاله هذه المرأة على أنها شخصية شريرة يعد نظرة قاصرة، لأن زوجة الأب كقيمة اجتماعية وليده ظروف معينة، ووليدة علاقات اجتماعية، وإدانة هذه القيمة الاجتماعية لا ينصب على هذه الشخصية فقط، بقدر ما يأخذ بعين الاعتبار موقع هذه الأخيرة
في نطاق العلاقات الاجتماعية، فالمجتمع ومن خلاله الطفل له نظرة مسبقة معادية لزوجة الأب، ويبدو ذلك بخاصة في المخيال الشعبي الذي لا تخلو أي حكاية من حكاياته من ذم لهذه الزوجة، وإذا تأملنا الظروف المعيشية القاسية التي برزت من خلالها الشخصية «زوجة الأب» في قصة «بقرة اليتامى» نجد تبريرا مقنعا لميل هذه الزوجة إلى ابنتها أكثر من ميلها لأبناء زوجها، وهو ميل طبيعي، لان الأم تعمد إلى حماية أبنائها أولا وعليه يبدو من المحبذ أن يتفهم الطفل الوضع وان يتجاوز بعض الاضطرابات النفسية التي يمكن أن تحدث له من جراء هذا الوضع.
لم تخل إذن هذه القصص من تقديم مفاهيم خاطئة للطفل وأن الملامح التي شكلت صورة الطفل في قصصنا المدروسة، المستمدة من التراث الشعبي الجزائري تؤشر على أن فكرة الطفولة ومفهوم الطفل مازالتا لم يتبلورا في أذهان الكثير من كتاب أدب الطفل بشكل حداتي يخدم الطفل في واقعه المعيش.
د.مسعودة لعريط