كانت محاضرة الدكتور عبد المجيد الشرفي عن «الإسلام التونسي» ضمن سلسلة المحاضرات الشهرية حول «مظاهر التدين في تونس» التي ينظمّها معهد البحوث في الأديان وجمعية زنوبيا للفن والإبداع وفضاء التياترو... وذلك مساء يوم الثلاثاء الثالث من كل شهر بفضاء التياترو.
في استهلال محاضرته أشار رئيس بيت الحكمة عبد المجيد الشرفي في تواضع العلماء إلى أنه ليس مؤهلا مثل علماء اجتماع الدين للخوض في مسألة الإسلام التونسي لكنه اجتهد في جمع جملة من العناصر والمظاهر التي تؤكد خصوصية الإسلام التونسي.
إسلام «رسمي» في الحواضر و«شعبي» في الأرياف
يعتبر العديد من النقاد والباحثين بأن الدكتور عبد المجيد الشرفي هو صاحب مدرسة متفرّدة في مقاربة الحضارة الإسلاميّة اعتمادا على مناهج البحث العلمي الحديثة وعلى القراءة التاريخية للنصّ القرآني... وإن عرّف المفكر عبد المجيد الشرفي بمقاربته للإسلام الواحد والمتعدد فقد أكد في محاضرته عن «الإسلام التونسي» أن الإسلام واحد من حيث النواة الأصلية أي الوحدة والنبّوة المحمدية ومتعددا باعتبار أن الظاهرة الدينية عموما تتميّز بالتحوّل والتبّدل والتغير وفق السياق السياسي والاجتماعي والاقتصادي... وهو ما يعني أن الإسلام في تونس تأثر بالبيئة التونسية فكانت له خصوصية تونسية.
وفي عودة إلى ماضي الظاهرة الدينية في تونس يقول الباحث عبد المجيد الشرفي: على المستوى النظري نجد أن المدن والحواضر هي التي عرفت، قديما، الإسلام السنّي أو الرسمي في حين أن الأرياف والبوادي لم تكن تلتزم بهذا الإسلام الرسمي. ولنا في ذلك شواهد منها أن «التيجاني» قد روى في رحلته أنه بمروره على أهل الجنوب أثناء سفره إلى طرابلس وجدهم لا يمارسون أيه عبادة أو طقس ديني كما هو موجود في العواصم بل كانوا مسلمين بالاسم. وهذا الإسلام في الأرياف لا يخلو من العقائد «الإحيائية» وهو ما يتجلى في انتشار مذهب التصوف والطرق الصوفية ...».
وخلص الدكتور عبد المجيد الشرفي إلى القول بأن أشكال التدين في تونس في تلك الفترة كانت منسجمة مع البيئة قبل الحديثة للبلاد التونسية لكنها لم تكن مطابقة للإسلام في عهد النبوة، مميّزا بين إسلام رسمي في الحواضر وإسلام شعبي في الأرياف والذي يمكن اعتباره (إسلام عفوي) يغلب عليه طابع البداهة في تقبّل العبادات والشعائر الدينية... ولهذا لم يكن أجدادنا يطرحون الأسئلة ويثيرون الإشكالات التي نثيرها نحن اليوم.
قادة الإصلاح... و«إسلام البترول»
في مرور من فترة ما قبل الحداثة إلى ما بعد الحداثة في البلاد التونسية ، يقول الدكتور عبد المجيد الشرفي :» منذ القرن 19 واقتحام الحداثة بلادنا بطرق مختلفة نشأت فئة جديدة من غير العلماء التقليديين وعامة التونسيين وهم الذين أطلق عليهم «قادة الإصلاح» والذين لم يتوقف ظهورهم في القرن 20 . ورجال الإصلاح هؤلاء كان منهم من تخرّج من «الزيتونة» ومنهم من جاء من خارجها وكان لهم رأي في المسألة الدينية التي كانت تحتكرها المؤسسة الدينية الرسمية. وعموما لا يمكن لهذه المؤسسة الرسمية أن تتطوّر من تلقاء نفسها إلا إذا حثّتها عناصر خارجية على إعادة النظر في الكثير من المسلمات.
ومن ميزات الإسلام التونسي في هذا السياق امتلاك تونس لمؤسسة دينية رسمية ومن حولها رجال حداثة يرغمونها على تطوير خطابها... ومن هنا جاء الوعي بأن التدين يجب أن يأخذ بمعطيات الواقع وليس بالضرورة ما ورد في النصوص، وهي كذلك خاصية تونسية.
كما يمتاز الإسلام التونسي في نظر الدكتور عبد المجيد الشرفي بأنه لم يعترف نظريا طيلة تاريخه بالمذهب الحنبلي لأن المالكية تعتبر أن كتابها وفقهها هو الأصح من كل المذاهب ويأتي بعد كتاب الله مشيرا إلى أن المذهب الحنبلي لم يجد طريقة إلى الانتشار إلا بعد ظهور ما وصفه بـ»إسلام البترول».
الإسلام التونسي و«الترميق»
يستحدث الدكتور عبد المجيد الشرفي مصطلح «الترميق» لوصف واقع التدين في تونس اليوم. وفي هذا السياق يقول: «إن ما سميّته بـ«الترميق» يختلف عن معنى «التلفيق» إذ أني أقصد بالترميق الجمع بين عناصر لا تخضع لأي رابط منطقي أو نظري. وهي خاصية تونسية من مظاهرها أن الخمار أو النقاب، والذي أصفه بـ»حيل التاريخ»، ليس نتاج الإسلام التونسي بل هو نتيجة للتأثر بالإسلام البترولي وإن يتخذ هذا اللباس صفة «الشرعي» فإنه يفضح جملة من التناقضات مابين الهيئة والسلوك ... كما أن كيفية أداء الصلاة في تونس تأثرت بما تقدمّه القنوات التلفزية على مستوى استبدال إسدال اليدين بقبض اليدين ...»:
ويرى المفكر عبد المجيد الشرفي أن الإسلام التونسي قد فقد عنصر البداهة الذي كان موجودا لدى الأجيال السابقة وهو ما يحمّلنا اليوم مسؤولية أكبر في التعاطي مع المسألة الدينية. كما تطرق إلى الفوضى التي تسم مظاهر التدين التونسي مستدلا على ذلك بجملة من الأمثلة منها أن تفسير النصوص الدينية لم يعد يخضع إلى أي منطق وأن إصدار الفتاوى لم يعد يحتكم إلى مذهب معيّن بل صارت الفتوى تطلق جزافا باسم الشريعة وباسم الإسلام وباسم الله.
وفي خلاصة محاضرته عن «الإسلام التونسي» ذهب الدكتور محمد الشرفي إلى أن المجتمع التونسي وبالرغم من تأثره بما يسمى بـ»الإسلام المعولم» يبقى إسلاما متسامحا يقبل الاختلاف والتعدد وهذا يعود إلى تميّزه بثقل الطبقة الوسطى والإرث الإصلاحي ومشاركة المرأة في الفضاء العام وشيوع التعليم وطغيان النزعة الفردانية في المجتمع...
وإن أقرّ المفكر عبد المجيد الشرقي بأننا «نعيش إسلاما ممزقا» يغلب عليه «الترميق» فقد قدم مجموعة من الحلول تتمثل أساسا في تكوين الأئمة ومراجعة برامج التعليم ... مؤكدا أن تنقية الدين ليس فقط مسؤولية المثقفين أو المختصين بل هو مهمة كل المجتمع . وختم بالقول: « إن الدين هو أكثر ما يمنح المعنى للحياة».