قالوا: لأن طبيعة الحياة تتطلب أن تكون الأهواءُ مختلفةً؛ لأن مجالات الحياة متعددة، فهذا هواه في كذا، وهذا هواه في كذا. فترى الصَّديقَيْن يلازم أحدهما الآخر، ويشاركه طعامه وشرابه، فلا يفرقهما شيء، فإذا ما ذهبا لشراء شيء ما تباينتْ أهواؤهما، كما أن هوىً مختلفاً يخدم هوىً مختلفاً، فالذين اختلفوا مثلاً في تصميم الأشياء يخدمون اختلاف الأذواق والأهواء، لذلك يقولون: خلاف هو عَيْن الوفاق، ووفاق هو عَيْن الخلاف.
هنا يقول الحق سبحانه: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلهه هَوَاهُ (الفرقان: 43)الهَوَى. أن تكون هناك قضية ظاهرٌ فيها وَجْه الحق، إلا أنك تميلُ عنه وأنت تعرفه، لا أنك تجهله.
لذلك يقول العلماء: آفةُ الرأْي الهوى. فالرأي قد يكون صائباً، لكن يميل به الهوى حيث يريد الإنسان، وقلنا: لا أدلّ على ذلك من أن الرجل منهم كان يسير فيجد حجراً أجمل من حَجره الذي يعبده، فيَلْقي الإله الذي يعبده ليأخذ هذا الذي هو أجمل منه فيتخذه إلهاً، إذن: هواه في جمال الحجر غلب أنه إله.
وقد وقف المستشرقون عند قوله تعالى في حَقِّ النبي صلى الله عليه واله وسلم: وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (النجم: 3)
يقولون: كيف يحكم الله بأن رسوله لم ينطق عن الهوى، وقد عدَّل له بعض ما نطق به، مثل قوله تعالى:يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ (التحريم: 1).
وقال تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَك (التوبة: 43)
ولا بُدَّ أن نُحدِّد مفهوم الهوى أولاً: أنت مدرك أن لديه قضيتين: الحق واضح في إحداهما، إلا أن هواه يميل إلى غير الحق. إنه صلى الله عليه واله وسلم نطق لأنه لم تكن هناك قضية واقعة، وهو يعرف وجه الحق فيها، فهو ـ إذن ـ لم يَسِرْ على الهوى، إنما على ما انتهى إليه اجتهاده.
ألاَ ترى قوله تعالى لرسوله صلى الله عليه واله وسلم في مسألة تبنِّيه لزيد بن حارثة ادْعُوهُمْ لآبائهم هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّه (الأحزاب: 5) فمعنى أن نسبته لأبيه أقسط أن رسول الله لم يكُنْ جائراً، فما فعله قِسْط، لكن فِعْل الله أقسط منه.
فالحق ـ تبارك وتعالى ـ لم يُخطّىء رسوله صلى الله عليه واله وسلم، وسمّى فِعْله عدلاً، وهو عَدْل بشرى يناسب ما كان من تمسُّك زيد برسول الله، وتفضيله له على أهله، فلم يجد رسول الله أفضلَ من أنْ يتبنَّاه مكافأةً له.
ثم يقول سبحانه: أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلا (الفرقان: 43) وكيلاً يتولَّى توجيهه، ليترك هواه ويتبع الحق، كما قال سبحانه في موضع آخر: لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ (الغاشية: 22) وقال: أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِين َ (يونس: 99 ) وقال: إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاَغُ» الشورى: 48.