ومن الصعب العثور على نقاط مضيئة في مسلسل «أولاد مفيدة» أمام الفائض المستفز من سذاجة المشاهد وبلاهة المواقف في توظيف العنف بلا مبرر فني والتعسف على الذوق العام بـ«تبييض» الانحراف والجريمة...
في «أولاد مفيدة» شظايا صور عابرة وذكريات مشروخة وبقايا أحلام هاربة ... تحوّلت من رماد إلى نار مستعيرة تأتي على ما حولها دون هوادة ليغرق الجميع في لعنة مجتمع غير عادل وغير مستقيم ...
العنف غاية ووسيلة
يقول فرناندو بيسوا: «لماذا الفن بهذا الجمال؟ لأن لا غاية من ورائه، ولماذا الحياة بهذا القُبح لأنها مليئة بالغايات والأغراض والأهداف». وفي «أولاد مفيـــدة» ينحسر جمال الفن عن الشاشة ليتركنا وجها لوجه أمام القبح في كل أشكاله، قبح الصورة، قبح المشهد، قبح السيناريو... وحده العنف بكل أنواعه من عنف معنوي ومادي ورمزي يسرح ويمرح في الحقل الملغوم باللقطات البائسة والرسائل المحبطة والموجات السلبية ...أمام مشاهد مسقطة غاب عنها حسن التأليف والانسجام والتناغم بدا سيناريو»أولاد مفيدة « لقيطا يبحث عن هويته المجهولة منذ لحظة الولادة بين المقاطع المستنسخة من أعمال أجنبية والمشاهد المصطنعة حد المبالغة المقرفة ... المهم هو التعسف على تركيب حلقة تجذب اهتمام المشاهد بشتى السبل ومختلف الطرق عملا بالمبدأ الميكافيلي»الغاية تبرر الوسيلة» ما دامت حلوى الإشهار تسيل اللعاب وما دام الخطأ يلبس غطاء الصحيح والجريمة تنتعل حذاء الشرعية في مسلسل «أولاد مفيدة» !
المرأة ضحية كاميرا «الغريزة»
«نساء بلادي نساء ونصف» ... لماذا تختفي روعة هذا البيت الشعري للراحل أولاد أحمد على شاشة مسلسل «أولاد مفيدة»؟ فمن العبث محاولة البحث في الشخصيات النسائية لمسلسل «أولاد مفيدة» عن نموذج جيّد للمرأة التونسية ليس بمعنى الكمال والمثالية المطلقة بل من باب الوفاء للواقع. هذا الواقع الذي تكتب تفاصيله اليومية نساء من كل الأصناف، فكل امرأة على طريقها ومن موقعها تسعى إلى أن تترك بصمة ما وتحقّق هدفا ما وتحارب اليأس والفشل في كل مكان وزمان... لكن في «أولاد مفيدة « تختفي كل هذه الأنماط لتعربد على الشاشة الصورة السيئة عن المرأة التونسية لتتحوّل إلى مجرد جسد يباع ويشترى أو لاهثة وراء المال أو كائن ضعيف مفعول به...المهم أن تصبح شخصية قابلة لجلب نسب المشاهدة بالعزف على أوتار الغريزة والإثارة والجريمة...
وما بين الخضوع والرضوخ، الطمع والجشع، الاضطراب والضياع... تتيه صورة المرأة في دروب شائكة من العنف والرذيلة... وكأننا بنموذج المرأة السوّي قد انقرض من المجتمع ليغرق الكلّ في مستنقع الآفات والأمراض الخطيرة التي تأتي على الأخضر واليابس ...
من الطفولة البريئة إلى «المنحرفة»
في «أولاد مفيدة» تنزع الطفولة عنها وجه البراءة لتنتعل على عجل وفي استباق لمراحل عمرها قناع الانحراف، هكذا أرادت كاميرا المخرج أن تجعل من الأطفال «مشاريع مجرمين» وقنابل موقوتة قابلة للانفجار في وجه المجتمع في محاولة جرّه إلى القاع لا الارتقاء به إلى القمة. في «أولاد مفيدة» صغار يتبنون فكرا عنيفا ويمارسون سلوكا خاطئا وينطقون خطابا سيئا أخرجهم من جنة الطفولة إلى جحيم الخطيئة ...فكانوا ضحايا عمل درامي يسعى إلى الاستئثار بنسب المشاهدة وكعكة الإشهار دون سؤال عن مدى تأثر الأطفال المشاهدين للعمل بسلوك أندادهم وهو في صورة الأبطال على الشاشة ودون اهتمام بالأثر السلبي الذي يمكن أن يبثه هذا المسلسل في أجيال الغد...
منذ انطلاق بثه أثار مسلسل «أولاد مفيدة» الجدل ليس بسبب جودة مضمونه أو قوّة إخراجه أو حبكة السيناريو فيه بل لارتفاع منسوب العنف والجرأة المزعومة. وكما لفتت الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري في الموسم الفارط نظر قناة الحوار التونسي بخصوص مسلسل «أولاد مفيدة 2 » باعتباره يحتوي على مضامين من شأنها أن تكون صادمة لبعض الفئات الاجتماعية، كما أن بعضها من شأنها أن تؤثر سلبا على فئة الأطفال والمراهقين خاصة وأن المسلسل يعرض في وقت الذروة، فقد أصدرت الهيكا كذلك هذا الموسم بلاغا تنص فيه على ضرورة أن يكتب على كامل الشاشة وبخط واضح «هذا البرنامج غير مناسب للأطفال دون سن 12»، لمدة 10 ثوان، وذلك قبل عرض حلقة المسلسل، وعلى أن توضع علامة أسفل الشاشة طيلة عرض الحلقة تفيد أن البرنامج ممنوع على من سنهم أقل من 12 سنة وألا يعرض المسلسل قبل الساعة العاشرة مساء... واليوم، تتواصل مهازل مسلسل «أولاد مفيدة» في جزئه الثالث في انفلات يقتات على حرية التعبير وينتهز الحق في الإبداع ...فهل من صحوة ضمير أخيرة حتى لا يكون مجتمعنا على شاكلة «أولاد مفيدة»؟