أمام جمهور عريض غصّت به مدارج المسرح البلدي قدّم الفنان المسرحي رؤوف بن يغلان، مساء السبت الفارط، عمله الجديد «إرهابي غير ربع» في أوّل مصافحة للجمهور بعد عروض خاصة بالمؤسسات العسكرية في تحيّة لحماة الوطن المرابضين على الحدود وفي الجبال ومناطق الخطر...
الإرهاب إكراه لا بطولة !
على الركح، يستدعي الفنان رؤوف بن يغلان «مشروع إرهابي» أو «إرهابي غير ربع» ليتحدث إليه من قريب لاعنه من بعيد، وليتناقش معه ندا لنّد حول دوافع وأسباب ونتائج الالتحاق بصفوف الإرهاب، وليحاوره على الملإ محاولا ثنيه عن اللّحاق بأعداء الحياة وإقناعه بواجب الدفاع عن الوطن لا التآمر عليه... في حوار مباشر وصريح بلا مجاملة ولا أقنعة بين الشخصية ومؤلفها، تنكشف الأوجاع والصرخات المكتومة والآهات المكبوتة التي حوّلت وجهة خريج الجامعات من صاحب شهادة العليا إلى «إرهابي غير ربع» وقنبلة موقوتة قابلة للانفجار في أي لحظة!
في «إرهابي غير ربع» يهب المخرج والمؤلف رؤوف بن يغلان خشبة المسرح لشخصيته المحبطة، واليائسة، والمظلومة... لتتحدث عن نفسها وتشي بآلامها وتصرخ بضعفها وقهرها وفقرها في تبرير لنيّتها الانضمام إلى الجماعات الإرهابية التي وفرت لها ما عجزت الدولة بعد أن أوصدت في وجهها كل الأبواب واسود في عينيها الحاضر والمستقبل. ليكون السؤال المزعزع بمثابة الزلزال:» كيف تنجح مجموعة صغيرة في استقطابي وتعجز الدولة بطّم طميمها من وزارات ومؤسسات ومنظمات...عن احتوائي؟
في هذه المونودراما الساخرة، الناقدة، المستفزة... لا يستثني بن يغلان أحدا ولا يعفي أي كان فالكل يتحمل مسؤولية ما في تحوّل الشخصية السويّة إلى إرهابي يسكن كالحيوان الجبل ويرفع السلاح في وجه الوطن. في قفص الاتهام، تستوي الحكومة والأحزاب والمنظمات والمجتمع المدني والفنانين والإعلام...في عجزهم عن إنقاذ الشباب الذي يتربصه الإرهاب
بشتى وسائل الإغراء ومختلف أشكال الاستقطاب... وهكذا كانت مسرحية «إرهابي غير ربع» بمثابة الصفعة أو الرّجة المدوية لمراجعة شاملة لسياسة مكافحة الإرهاب.
اليأس والبؤس طُعم الإرهاب
على طاولة التشريح، يفكّك الفنان رؤوف بن يغلان مفاصل ظاهرة الإرهاب مشخصا أعراضها ومحلّلا أسبابها ومحذّرا من عواقبها... في إشارة إلى أن «الوقاية خير من العلاج».
ولأنه لا ينطلق من فراغ ولا يتجرأ على صعود الركح دون إعداد محكم واستعداد تام لملاقاة الجمهور فقد ارتدى الفنان رؤوف بن يغلان سترة عالم الاجتماع في صياغة فصول مسرحيته الجديدة «إرهابي غير ربع» التي كانت ثمرة عشرات الزيارات الميدانية والتنقلات في الجهات والأحياء الشعبية والحوارات المباشرة الذي شملت كل الأطراف انطلاقا من المتمتعين بالعفو التشريعي العام سنة 2011 على خلفية أحداث سليمان مرورا برجال الأمن وصولا إلى أئمة المساجد...فجاء نص مسرحية «إرهابي غير ربع « عميقا وهادفا بعيدا عن السطحية والإثارة.
وإن يعدّد هذا العمل المسرحي أسباب سقوط الشباب في فخ الإرهاب من بطالة و عطالة ومحسوبية ورشوة ...فإنه يقدم أيضا حلولا لمواجهة هذه الآفة المتربصة بأبناء البلد والمهددة لسلامة الوطن على غرار مقاومة الفساد والإحاطة بالشباب المهمش ونشر الثقافة في الأحياء الشعبية والجهات الشعبية...
الفنان العضوي والرسالة المقدسة
في «إرهابي غير ربع» يأسر الفنان جمهوره في حوار شيّق وانفعالي حد الصدام بين المؤلف وشخصيته في محاولة إقناعها عن العدول في الذهاب إلى الجبل ورفع السلاح ...وهنا يستعيد رؤوف بن يغلان أعماله السابقة على غرار «آش يقولولو» و»نعبر ولا ما نعبرشي» و»حارق يتمنى»... في ربط بين الأمس واليوم، بين شخصيات المسرحية السابقة و»إرهابي غير ربع» التي يجمع بينها اليأس من الواقع وقدرة صانعها على مقاربة الظواهر الاجتماعية بطريقة فنية راقية ورائقة...
بعد حوالي ساعتين من الحوار والجدل والخصام... ينجح المؤلف بعد جهد جهيد في إقناع شخصيته بالتخلي عن فكرة الالتحاق بصفوف الجماعات الإرهابية ليكون المشهد الأخير من المسرحية بمثابة كسب الرهان في اللعب على نسبة الشك المتبقية والربع الأخير من تحوّل الشخصية إلى عنصر إرهابي في «إرهابي غير ربع». وفي النهاية اختار «مشروع الإرهابي» الذي يهدّد سلامة البلاد أن يلتحق بصفوف الجيش الوطني عوضا عن الجماعات الإرهابية للذود عن تراب البلد. وعلى أنغام النشيد الرسمي رفع ستار الاختتام وسط التأثر الكبير والهتاف الحار للجمهور... وإن توّصل المؤلف رؤوف بن يغلان إلى إنقاذ شخصيته من براثن الإرهاب بل في إيقاظ غريزة حب الوطن فيها وشحذ همتها في الدفاع عن حمى الوطن ، فهل تنجح الحكومة فيما نجح فيه الفنان؟