في المقهى تبحث عيناي عن مكان أختلي فيه مع عزلتي، أجلس منسية، من النافذة الزجاجية أشتم رائحة البحر وأتمتع بهدوء الصباح المقفر ولو إلى حين، يضع النادل على الطاولة دوبل إكسبريس، يعرف عادتي الصباحي دون سؤالي، يعجبني فنجان أزرق وطويل وليس ابيض مستدير كبقية المقاهي، أضع كتابي ودفتري وصحيفتي وقلمي في إنتظار ما يقرره مزاجي، أستسلم لحلم أنني أبيع الحب للعشاق، أخرج من حلمي على رائحة الشيشة ، أستنشق الرائحة أتلذذها، ألتفت حولي، شبه إمتلأ المقهى وكأن البطالة ليست لي وحدي، لكني الوحيدة بلا رفيق، أحاول استرجاع حلمي فلا أجده، الأحلام متعبة لذلك ينساها الحالمون، في الزاوية رجل يحدق في غيوم السماء العابرة، لا بد أنه يحلم، ما الفرق بين أحلام المرأة وأحلام الرجل؟ لسبب ما أتهيب الخوض في الموضوع،أحاول جاهدة مقاومة فضولي فيما لا يخصني حتى أصيبت حاسة الفضول بالضمور، لكن لم يمنعني ذلك من إلقاء نظرة من حولي بل نظرات، لم أعد في عزلتي الحقيقية التي أختارها طوعاً وتجردني من حضور الآخرين هنا الحالة عكس ماكانت، علي تحمل حضور يحرمني من وحدة مستحيلة، في عالم
التليفون المحمول أنا ملغاة خارج مشاهد تدور أمامي وبقربي، لا دخل لي في ما أسمع، شاهد نكرة، وجودي يتقلص على مرأى مني، جرم واضح من السلبية، أغلبية الحضور يدهم على أذنهم وشفاههم تتحرك، عندما كنت صغيرة كان المجنون فقط يتكلم وحده، اليوم كفيلم غرائبي كل الناس تتكلم وحدها، في الشارع في المقهى في الحافلة في الحمام...حتى في المقبرة، أنواع من البشر تستعمل الهاتف المحمول ، العاقل والمجنون والمتهور والخجول والأحمق والمتبجح، هناك النبرات الهادئة والمزعجة، هناك نغمات متعددة ومتوالية تكشف أذواقاً مختلفة من المزود لنانسي عجرم أحيانا أم كلثوم نادرا عبد الوهاب أو فيروز أبدا جاك بريل أو بياف.
أسمع الحكايات الشخصية أرى الشفاه تتحرك أتلقى نظرات تخترقني ولا تراني، اجتياح كامل وشامل لعالمي الحيوي والحميمي.
ف
ي الطاولة على يميني رجل تجاوز منتصف العمر بجانبه صبية نسيت إرتداء بقية ملابسها مكتفية بسترة شعرها الطويل الجميل ، على الأرجح الرجل في مكالمة مع زوجته يحاول بصوت مسموع أن يشرح لزوجته سبب عدم تمكنه ليلة أمس من العودة للمنزل بسبب السيارة التي تعطلت في سبيطلة ويلح عليها أن تهتم بالأولاد وابتسامة بلهاء على وجه الجميلة أمامه، وورائي رجل متعدد الوظائف يعلن على مدى أهميته الإجتماعية والعملية ، في لحظات قصيرة عرفت الكميات المباعة من الإسمنت والرمل والدهن والدقلة والبلدان التي ينوي التصدير اليها ، ملايين من الدينارات يجري تبادلها في هذا المقهى الصغير عبر الهاتف المحمول، أمامي ثلاث فتيات إحداهن متخرجة من قسم الصيدلة تبحث عن عمل عبر المحمول والإعلانات في الصحيفة أمامها والثانية تبحث عن مبيت للإقامة والثالثة تعطي موعدا لحبيب منتظر، هل أكتب ملاحظات أم هي قصص من الحياة؟
شيء ما يفضح المجموعة المتباطئة أو المستعجلة كخدعة تترك بصمات مخالفة للحقيقة، سرعة محتومة عديمة الجدوى خاصة في هذه الرقعة الصغيرة من المتوسط حيث المكان للجميع ولا إحساس بالزمن، الوقت فخ نتجاوزه كل يوم، ورغم أن المحمول يحررنا من عوائق المكان لكنه عندما يخترق حواجز الصمت يصبح المكان منفى والازدحام اغترابا، المكان هو الحيز الشخصي الذي يحمل الأمان والهدوء لساكنه،
لمدة طويلة رفضت حمل المحمول، أكره الإحساس بالجبرية أن أكون حاضرة للجميع حسب رغبتهم، جرح لاستقلاليتي المتمردة،لكنني استسلمت بسبب والدتي البعيدة والتي كانت تظن أنها بحاجة للتواصل المستمر معي، واليوم رحلت إلى مكان لا هاتف محمول فيه ولا هاتف أرضي ، أليس الهاتف يأتي من المجهول وهل ثمة مجهول أكثر من المكان التي رحلت إليه.
المحمول اخترع لتسهيل الأعمال المستعجلة، في الشمال الغربي شاهدت رجلاً يبيع الهندي على حماره يتكلم بالمحمول صورة جداً طريفة.
من المفارقات ان عالم العولمة اليوم حرمنا من لذة الانتظار، ثعلب الأمير الصغير مثالاً إذا كان الموعد في السادسة يحتفل القلب من الخامسة والنصف بساعة اللقاء، نمد خيطاً من الأحلام بيننا وبين القادم نحتكي حكايات اليوم لنرويها حين يجتاحنا عالم الشخص المنتظر، القلب يلح لمعرفة دقيقة الوصول ، حضور للغياب بامتياز.
اليوم أصبح المكان متحركاً فالسؤال المتداول عند بدء المكالمة ( أنت وين) يحاول ان يبرمج الزمن والمكان ، سيأتي يوماً نتنقل فيه وعلى آذاننا سماعة المحمول وأمام أعيننا صورة على الشاشة وذاكرتنا مضغوطة على مفكرة الكترونية تحفظ مواعيدنا دون رغبتنا، هل هذه هي العولمة؟ إعادة تركيب المكان والرابطة لكل ما هو حميمي وسط الفضاء العام؟ حضور افتراضي؟ دعوة فورية؟ هجرة مضيافة؟ موت نهائي للغياب؟ حالة( زمانكاتية) متحولة، حوار من س م س ومفاتيح لا تقبل الثبات؟ لم تعد هناك خصوصية في المحمول حتى عندما تضغط ليلا على ذلك الزر الصغير الصامت يعترضك صديق في الغد ( عليش البارح مسكر تليفونك؟- تجيب: الوقت متأخر- عليش ما كلمتنيش كيف لقيت رقمي؟-- تنتقم على التطفل بالصراحة ؟ ما عينيش باش نكلمك.) يتركك طبعا باتهامك بعديم الأخلاق، هذه الآلة الملعونة التي تجعل من فضيلة الصدق رذيلة اجتماعية.
نظرت إلى الوقت على شاشة المحمول، بحثت عن لذة الوقت الضائع وتساءلت هل يمكنني أن أستغني عن هذه الآلة العجيبة ؟ لا أدري. طلبت قهوة ثانية تصفحت جريدتي سمعت هاتفا يهمس: تمتعي بلحظات الشرود ولذة الكسل وإغلقي الباب حتى لا تتوغل خطيئة الفضول، أقاوم مرارة الوضع بمرارة قهوة بلا سكر ملاذي الأخير، ترن موسيقى محمولي ( صباح ومسا تركت الحب أخذت الأسى) إسم إبنتي يرتسم على الشاشة الصغيرة، ارفع التليفون : صباح الخير نادية –تسأل : أنت وين ؟