نعيش يوميا على وقع الحوادث والفجائع والحشد والتصعيد، وتواتر تقارير الخبراء والدوائر الاقتصادية الموشحة بالسواد..
تتتابع أخبار الجريمة والإرهاب و..حتى كاد التطبيع يؤمن لها مسالك موازية لشبكات طرقاتنا وحتى شرايين دوراتنا الدموية,,
هل نستطيع حقا الإيفاء بتعهداتنا القديمة المتجددة في تكريس الاستدامة، وحفظ حقوق الأجيال القادمة التي استلفنا منها الموارد والمنظومات ومقدرات البلاد؟
مع كل ذلك، يرى كثيرون أنه لا داعي للتهويل، وأن على الأرض ما يستحق البقاء.
في الأثناء ينتبه البعض لواحدة من المنجزات المضيئة المرتبطة بدستور الجمهورية الثانية، لم تكتمل ولادتها، وهي الهيئة العليا المستقلة لحقوق الأجيال القادمة والتنمية المستدامة، والتي مرت خمس سنوات على إعلان بعثها ودسترتها، غير أن المخاض لم يتم، وشروط تنزيلها في الواقع لم تتكامل..
في ذلك مؤشر خطير بليغ الدلالة عن طبيعة التبويب، ومنوال ترتيب الأولويات وسلم الأفضلية في رهانات الساسة وصناع القرار وبينهم المشرعون تحت قبة البرلمان.
يكاد تفعيل هيئة التنمية المستدامة يرحل إلى عهدة ما بعد الفريق النيابي الراهن، وقد شارفت مدته على الانقضاء..
لم ننته من محو آثار السياسات التنموية الخرقاء للعهود السابقة التي لم تكن ترعى في الاستدامة بندا ولا عهدا، وما زالت صفاقس وقفصة وقابس وصفاقس تتشوف لفجر الخلاص النهائي من ضريبة نمو أعرج،و آثار المضرة البيئية والصحية التي ناءت بحملها أجيال.
لم يتم بعد القطع مع جذور المعضلة القديمة التي دفعت فاتورتها المجموعة الوطنية، ولا تزال مليارات لاستصلاح ما أفسدت يد المخططين والساسة الذين انشغلوا بتعبئة الموارد وتشييد المصانع وتشغيل الآلاف وإعلان نجاحات الدولة ، وكانت النتيجة مواجع غائرة في الحوض المنجمي وشط السلام ومحيط بحيرة بنزرت و..
ولئن انشغلت الدولة بعد الثورة لليوم بمصالحة المواطن مع محيطه، موازاة مع تعالي الأصوات المنادية بكل شيء في نفس اللحظة، تشغيلا ورد اعتبار وتوازنا جهويا وتحسينا للأوضاع و..يبقى الأمل مترنحا في ظل تردد النخب تجاه قضية مفصلية ويرتبط بها مصير أجيال..
البعض يرى مثلا جبال الملح المهدورة، "المنهوبة" في واضحة النهار وطواعية، وفق اتفاقات قديمة، ويسألون أحيانا عن البترول وعن الطاقة، مطالبين بالشفافية، وهي حقوق مشروعة بلا ريب، ويطلبون الزيادات والانتدابات و..يؤجلون مطالب أكثر خطورة ومستقبلية لأن وقعها لا يحرك الشارع ولا يحشد الجموع ولا يغذي حراك النقابات الملتهب..
بالأمس القريب انطلقت في العاصمة، كما في مدن العالم، ميرة حول المناخ، شارك فيها بضع عشرات من الناشطين وسط دهشة بعض المارة في شارعي محمد الخامس والثورة..كما مر مؤتمر المناخ كوب 24 دون كبير ضجيج ولا صدى يذكر..
كلنا يتحمل المسؤولية، وقادة المركب وركابه، سيان في حصص التباطؤ وتأخر انطلاقة المشروع الوطني المجتمعي المأمول، والمضمن أجندا 21 لم تستكمل صياغتها، ولم ينطلق بالتالي تنزيلها..أين الخلل؟
إلى متى؟ لم ننتبه من غفوتنا، ولم تحركنا، بعد، تجربة رواندا الشقيقة برغم مأثرتها الفريدة، ولم تنبهنا تجارب بلدان صغيرة مثلنا أدركت الدرس وتمثلت قوانين اللعبة، واندرجت على طريق نهضتها السيار..
وبنقد ذاتي مشروع ليس جلدا للنفس، نقر أنه وبرغم ورشات عمل هادرة في بعض الدوائر البيئية والاقتصادية والطاقية وغيرها، ما زلنا ننتظر أن يحمل القضية اصحابها، وينتظم المثقفون والجامعيون والمربون والاعلاميون ومئات الفاعلين مع حكماء البيئة وروادها ، وفق نبض موحد ، وكلمة موحدة تدفع نحو تبني خارطة طريق بلا رجوع نحو منوال تنمية مستدامة، وإقتصاد في لون هوية تونس التاريخية ..
لنتحرك اليوم ، فالتاريخ لا يرحم، والمستقبل أبناؤنا ابطاله، وصناعه، ونحن اليوم فاعلوه..
لم يبق من الزمن متسع للجدل والتردد.. الآن، نعم، الآن وليس غدا..نحن الخلل، ونحن الأمل..فالاستدامة حق الأجيال القادمة، حلم مشروع لا بد أن يفتتح الآن، ولا يقبل أن يظل محالا على ضمير مستتر تقديره، الآخر..