تبدو الوقائع على الأرض أكثر تعقيدا من مجرد وقف مؤقت لإطلاق النار أو تبادل للأسرى والرهائن وإعادة الجثث. إذ يرى مراقبون أنّ المشهد الميداني والسياسي يكشف عن محاولة لإعادة صياغة واقع القطاع وفق رؤية أمريكية–إسرائيلية تهدف إلى فرض أمر واقع جديد، يهدّد وحدة الأرض الفلسطينية ومشروعها الوطني برمّته. يأتي ذلك فيما أعلن الاحتلال الحدود مع مصر منطقة عسكرية مغلقة بسبب زعمها "تهريب أسلحة" عبر المسيّرات الى غزة .
هندسة المشهد الفلسطيني
منذ أن أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خطته لوقف الحرب وإعادة ترتيب أوضاع غزة، بدا واضحا أن الهدف هو إعادة هندسة المشهد السياسي الفلسطيني. فبينما تتحدث واشنطن عن "التهدئة" و"الاستقرار"، يقرأ الفلسطينيون في غزة هذه التحركات باعتبارها محاولة لتمرير تقسيم فعلي للقطاع عن الضفة الغربية، تحت غطاء ترتيبات أمنية وإنسانية.
إذ فشلت المرحلة الأولى من الخطة، التي شملت تبادل أسرى ورهائن ووقفا مؤقتا لإطلاق النار، فشلت في تحقيق نتائج ملموسة، بفعل الخروقات الصهيونية المتكررة واستمرار العدوان بأشكاله المختلفة. إذ لا تهدئة يمكن أن تصمد في ظل قصف مستمر، وحصار خانق، واحتلال يرفض الاعتراف بالحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني.
ويرى محللون أنّ ما يجري اليوم ليس سوى محاولة جديدة لإعادة إنتاج الأزمة لا حلها. فالتعنت الإسرائيلي، المدعوم بصمت دولي وتواطؤ سياسي، يجعل أي مسار تفاوضي مجرّد غطاء مؤقت لإعادة ترتيب الأوضاع بما يخدم مصالح الاحتلال. في المقابل، تصرّ المقاومة الفلسطينية، وعلى رأسها حركة حماس، على أن سلاحها هو ضمانة البقاء في وجه مشاريع الإملاء والابتزاز، مؤكدة أن أي اتفاق لا يضمن إنهاء الاحتلال ورفع الحصار هو اتفاق منقوص.
وفي ظل هذا المشهد المأزوم، يبقى الشعب الفلسطيني في غزة عنوانا للصمود الأسطوري. فوسط الدمار والدماء، يواصل أهالي القطاع تمسكهم بحقهم في الحياة والحرية والكرامة، رافضين كل محاولات طمس هويتهم أو تقسيم أرضهم.
حماس ترفض أي وجود عسكري "أمني" دولي
من جانبه أعلن القيادي في حركة حماس موسى أبو مرزوق، خلال لقاء تلفزيوني، أن الحركة وافقت على أن يتولى وزير من السلطة الفلسطينية إدارة قطاع غزة.
واعتبر أبو مرزوق أن قرار الحركة يأتي في إطار "إعلاء مصلحة الشعب الفلسطيني"، دون أن يؤكد ما إذا كان ذلك الموقف مرتبط بخطة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للسلام في القطاع وفق الجزيرة.وخلال المقابلة، تطرق أبو مرزوق إلى القوة الدولية التي من المفترض أن تنتشر في القطاع وفقا للخطة، مشددا على رفض نشر أي قوة أو أي وجود عسكري دولي في القطاع دون موافقة فلسطينية واضحة، وأن مشروع القرار الأمريكي في مجلس الأمن يحولها إلى "قوة ذات طابع أمني أكثر من كونها قوة حفظ سلام".
وحول مسألة نزع السلاح، أشار إلى أن بعض فقرات مشروع القرار تربط مهام القوة بنزع سلاح الفصائل، وهو ما تعتبره حماس "تهديدا مباشرا للاستقرار الداخلي وذريعة لملء فراغ أمني جديد".وأضاف القيادي في حماس أن المشروع لا يزال "غامضا وغير تفصيلي"، وأن الأطراف الفلسطينية والوسطاء لم يناقشوه بشكل كاف، بينما تصر كل من قطر وتركيا ومصر على أن يكون أي نشر للقوات بقرار من مجلس الأمن يضمن شرعية دولية كاملة.
وحول إدارة القطاع أمنيا، أكد أبو مرزوق وجود "توافق فلسطيني على أن تكون قوة حفظ الأمن في غزة فلسطينية، تحت إشراف لجنة إدارة القطاع"، مشيراً إلى أن أي قوة خارجية تفرض دون موافقة شعبية أو دون إشراف إدارة فلسطينية لن يتم قبولها، وقد تثير صراعات داخلية.
كما جدد التأكيد على أن موافقة حماس على تولي السلطة الفلسطينية مرجعية إدارية متفق عليها في القطاع، تأتي لمنع "أي فراغ قد تستغله أطراف أخرى وتعيد القطاع إلى مربع الفوضى".
ترامب يمنح تركيا دورا محوريا في خطة غزة
على صعيد متصل كشفت صحيفة "واشنطن بوست" أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يرى في تركيا لاعبا مركزيا في تنفيذ خطة السلام الأمريكية الجديدة في قطاع غزة، وذلك بعد نجاح أنقرة في إقناع حركة حماس بقبول اتفاق الهدنة، في وقت يعتبر فيه الاحتلال الإسرائيلي هذا الدور “تهديدا أمنيا مباشرا” نظرا لعلاقات تركيا الوثيقة بالحركة.
وتشير الصحيفة إلى أن واشنطن تسعى لإشراك تركيا في عملية إعادة إعمار غزة وضمن قوة دولية لتثبيت الاستقرار، في حين يكثف الاحتلال جهوده لإفشال أي وجود تركي ميداني، وسط صراع إقليمي متجدد على النفوذ في مرحلة ما بعد الحرب.وبعد استبعادها عن الجهود الدبلوماسية الأولى، استعادت تركيا حضورها عقب إقناعها حماس بإطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين وهو بند محوري في اتفاق الهدنة٬ والموافقة على خطة ترامب.
وقال الرئيس رجب طيب أردوغان إن بلاده تتحمل "مسؤولية أساسية" في إعادة إعمار غزة، معلنا استعداد أنقرة لتقديم المساعدات الإنسانية والمشاركة في بعثة دولية لحفظ الاستقرار.
ويرى محلّلون أنّ مشاركة تركيا في الخطة الأمريكية ستعزز موقعها في واشنطن وتمنح أردوغان رصيدا سياسيّا داخليّا جديدا بوصفه "زعيم العالم الإسلامي".لكن هذا الدور أثار قلقا واسعا في تل أبيب٬ حيث قال مايكل ميلشتاين، الرئيس السابق لشعبة الشؤون الفلسطينية في الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية: ''فكرة دخول الأتراك إلى غزة تصيب الإسرائيليين بالجنون... تركيا ليست عدوا رسميا، لكنها بالتأكيد ليست شريكا لإسرائيل''.
تحولات إقليمية
ولفتت "واشنطن بوست" إلى أن'' التحولات الكبرى في الشرق الأوسط خلال العامين الماضيين، بما في ذلك سقوط نظام بشار الأسد وسلسلة الضربات الإسرائيلية ضد إيران وحزب الله، أضعفت النفوذ الإيراني وفتحت المجال أمام عودة تركيا لاعبا إقليميا قويا''.
بحسب الصحيفة، كثف القادة الإسرائيليون تحركاتهم لإحباط أي خطة تمنح تركيا موطئ قدم في غزة.وقال رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو في 26 أكتوبر الماضي: “إسرائيل ستقرر بنفسها أي القوات غير مقبولة، وهذا أمر متفق عليه مع أصدقائنا الأمريكيين”.في المقابل، صرح نائب الرئيس الأمريكي جاي دي فانس خلال زيارته الأخيرة لإسرائيل بأن واشنطن “لن تفرض على أصدقائنا الإسرائيليين قوات أجنبية”، لكنه أكد أن “للأتراك دورا بناء في العملية السلمية”، مضيفا: “الطريق إلى السلام يمر بالتركيز على المستقبل، لا على الماضي”.
وترى الصحيفة أن دور تركيا في إعادة إعمار غزة يحمل بعدا اقتصاديا ، إذ تمتلك الشركات التركية خبرة طويلة في مشاريع البنية التحتية وإزالة الأنقاض، ما يؤهلها للمشاركة في مشاريع تقدر عشرات المليارات من الدولارات.وبحسب واشنطن بوست، ترى تركيا في دورها الجديد فرصة تاريخية لاستعادة نفوذها في الشرق الأوسط وتعزيز مكانتها لدى واشنطن.
مطالب بفرق دولية لانتشال جثامين آلاف الفلسطينيين
ميدانيا دعت اللجنة الوطنية لشؤون مفقودي حرب الإبادة الإسرائيلية بقطاع غزة، الخميس، المجتمع الدولي للتدخل الفوري وإدخال فرق دولية متخصصة لانتشال جثامين آلاف الفلسطينيين من تحت أنقاض المنازل التي دمرها الجيش الإسرائيلي.وقال علاء الدين العكلوك، متحدثا باسم اللجنة (غير حكومية)، خلال مؤتمر صحفي في مدينة غزة، إن القطاع "تحول إلى أكبر تجمع للمقابر في العالم"، مشيرا إلى أن "نحو 10 آلاف فلسطيني ما زالوا مفقودين تحت الركام".
وأوضح أنّ "هؤلاء الشهداء دفنوا تحت منازلهم التي تحولت إلى مقابر جماعية، دون أن تصان لهم كرامتهم الأخيرة أو تنتشل أجسادهم".
وأضاف العكلوك: "نعبر عن صدمتنا واستنكارنا الشديد لغياب الدور الفاعل للمنظمات الدولية والهيئات الإنسانية، خصوصا تلك المعنية بملف المفقودين، في ظل ما يجري من كارثة إنسانية متفاقمة".
وأشار إلى أن اللجنة تابعت "بألم شديد" ما وصفه بازدواجية المعايير الدولية في التعامل مع جثامين الضحايا الفلسطينيين، مقارنة بالاهتمام الذي أبدته جهات مختلفة في استخراج جثامين الأسرى إسرائيليين، ما يعكس، بحسب قوله – "ظلما فادحا وتحيزا واضحاً ضد ضحايا غزة".
ودعا العكلوك، الرئيس الفلسطيني محمود عباس لـ"تفعيل كل القنوات السياسية والقانونية واللوجستية، للضغط من أجل متابعة ملف المفقودين ورعاية شؤون عائلاتهم".وطالب، المجتمع الدولي بإدخال فرق متخصصة ومعدات ثقيلة وتقنيات للكشف عن الجثامين تحت الأنقاض، وإجراء الفحوصات الجينية (DNA) للتعرف على هويات الضحايا، وعدم تركهم في عداد "المفقودين مجهولي الهوية".
ودعا المجتمع الدولي إلى "الإسراع في إعادة الإعمار، بدءاً من رفع الركام وانتشال الجثامين".وتمنع إسرائيل إدخال معدات وآليات ثقيلة لرفع الأنقاض وانتشال جثامين الفلسطينيين.
واعتبر مدير عام المكتب الإعلامي الحكومي إسماعيل الثوابتة في تصريحات سابقة للأناضول، منع إسرائيل إدخال المعدات الثقيلة خرقا للبروتوكول الإنساني من الاتفاق والذي ينص على السماح بدخول المئات من تلك الآليات.
يأتي ذلك في وقت تسابق فيه إسرائيل الزمن من أجل الحصول على ما تبقى من جثامين أسراها بغزة، والذين تبذل حركة "حماس"، جهودا للبحث عنهم وانتشالهم من تحت الأنقاض تنفيذا لالتزاماتها التي نص عليها اتفاق وقف إطلاق النار.وفي هذا الإطار، سمحت إسرائيل قبل أكثر من أسبوع، بدخول بعض المعدات للبحث عن جثامين أسراها وفق إعلام عبري، غير آبهة بالآلاف من جثامين الفلسطينيين تحت الأنقاض.
وفي ذات السياق، أعلنت وزارة الصحة بغزة انتشال نحو 513 جثمانا لفلسطينيين ممن قتلوا في الطرق والشوارع، منذ 11 أكتوبر المنصرم.ولمدة عامين، بدأت إسرائيل في 8 أكتوبر 2023 حرب إبادة جماعية بغزة، بدعم أمريكي، خلفت أكثر من 68 ألف شهيد وما يزيد عن 170 ألف جريح، ودمارا طال 90 بالمائة من البنى التحتية في القطاع.
حرمان القطاع من الغذاء الأساسي
هذا وقال المكتب الإعلامي الحكومي في غزة،أمس الخميس، إن إسرائيل تحرم المدنيين الفلسطينيين في القطاع من أكثر من 350 صنفا من المواد الغذائية الأساسية، التي يحتاجها الأطفال والمرضى والجرحى والفئات الضعيفة، بينما تسمح بدخول سلع ذات قيمة غذائية متدنية.
وأوضح المكتب، في بيان، أن إسرائيل "تمارس سياسة تضييق وتجويع"، مؤكدا أنها تواصل منع دخول مواد غذائية أساسية.وبحسب المكتب، تشمل الأصناف التي تمنع إسرائيل إدخالها: "بيض المائدة، واللحوم الحمراء، واللحوم البيضاء، والأسماك، والأجبان، ومشتقات الألبان، والخضروات، والمكملات الغذائية، إضافة إلى أصناف ضرورية للحوامل والمرضى وذوي المناعة الضعيفة".
وقال إن "إجمالي ما دخل إلى غزة من المساعدات منذ بدء وقف إطلاق النار بلغ 4453 شاحنة فقط، من أصل 15600 شاحنة كان يفترض دخولها حتى مساء أمس الأربعاء، وفق ما نصت عليه ترتيبات وقف إطلاق النار والتفاهمات الإنسانية المصاحبة له".وأوضح أن هذه الشاحنات شملت 31 شاحنة غاز طهي و84 شاحنة سولار مخصصة لتشغيل المستشفيات والمخابز والمولدات، رغم استمرار النقص الحاد في الوقود والمواد الأساسية.وبين أن متوسط ما يدخل القطاع يوميا لا يتجاوز 171 شاحنة، مقابل 600 شاحنة يوميا نصت عليها التفاهمات الإنسانية، ما يشير إلى استمرار سياسة التضييق على أكثر من 2.4 مليون فلسطيني في غزة.
وأشار إلى أن هذه الكميات لا تلبي الحد الأدنى من الاحتياجات الغذائية والطبية والمعيشية، وأن القطاع يحتاج إلى تدفق منتظم لا يقل عن 600 شاحنة يوميا تشمل الغذاء والدواء والوقود ومستلزمات الصحة.وأكد المكتب استعداد الجهات الحكومية في غزة لتنسيق دخول وتوزيع المساعدات الإنسانية بالتعاون مع الأمم المتحدة والمنظمات الإغاثية العربية والدولية، بما يضمن وصولها إلى جميع المحافظات.ولم تفلح المساعدات الإنسانية الشحيحة الواصلة إلى القطاع بموجب اتفاق وقف النار بين حماس وإسرائيل، في كسر المجاعة أو البدء بمعالجة آثارها، خاصة وأن ذلك يترافق مع تدهور حاد في الأوضاع الاقتصادية لمعظم الفلسطينيين ما يحول دون قدرتهم على شراء المواد الغذائية.