حدثٌ كاشف لمفارقة عالم يعيش تناقضاً صارخاً بين إرادة الشعوب وخيارات الأنظمة. ففي اللحظة التي منع فيها الاحتلال أسطولاً مدنياً إنسانياً من الوصول إلى غزة، كانت شوارع أوروبا، وخاصة في إيطاليا، تموج باحتجاجات متصاعدة لم تقتصر على إدانة الاحتلال، بل إدانة الحكومة الإيطالية نفسها لصمتها ودعمها للإبادة. لتعلن الشوارع الأوروبية قبل غيرها أن القضية الفلسطينية استعادت موقعها كقضية أخلاقية كونية.
هذا التحول في المزاج الشعبي الأوروبي يتجاوز في الساعات الأخيرة رمزية التضامن المباشر مع غزة، وبات مساءلة صريحة لحكومات القارة التي وُضعت اليوم أمام مأزق سياسي داخلي. فهي لم تعد قادرة على أن تسوّق خطاباً رسمياً يبرّر جرائم الاحتلال تحت غطاء «الحق في الدفاع عن النفس» ودعم سياسي وعسكري مباشر، دون أن تدفع ثمنه سياسياً وانتخابياً، في ظل رأي عام يرى يومياً صور القصف والحصار والجوع. هذه الفجوة المتسعة بين الأنظمة والشعوب تُضعف شرعية السياسات الغربية وتفتح الباب أمام مراجعات قد تكون اضطرارية أكثر منها اختيارية.
في قلب هذا المشهد، تبرز خطة ترامب باعتبارها العنوان الأوضح لمحاولة فرض استسلام على المقاومة عبر إغراقها في تفاصيل تقنية تُفرغ القضية من جوهرها. الخطة التي صيغت على مقاس الاحتلال وعكست كلمات رئيسة الحكومة الإيطالية جورجيا ميلوني القائلة بضرورة أن يكون الضغط على حماس لا على الاحتلال. وهذا ما عاشته المقاومة خلال أيامها القليلة الماضية بعد عرض خطة ترامب وممارسة ضغوط حثيثة عليها لقبولها، رغم أن بنودها تقرّ باستسلام المقاومة وتفكيك سلاحها ووَأد أي مسعى لقيام دولة فلسطينية، والأشد وطأة أنها لا تضمن عدم استئناف الاحتلال لحرب إبادته.
لكن حراك الشعوب الأوروبية بالأساس منح المقاومة رسائل لا تقتصر على الدعم المعنوي، فما تقدمه هذه الشعوب اليوم بحراكها هو هوامش جديدة للمقاومة لتقليص الضغط عليها وتذكير العالم بأن المجرم والمسؤول هو الاحتلال لا المقاومة، وأن من يجب أن تُمارَس عليه الضغوط الدولية هو هذا الكيان. فحين تدرك الحكومات الغربية أن مواقفها الداعمة بلا قيد للاحتلال باتت عبئاً داخلياً عليها، يصبح لخطاب المقاومة وزن أكبر في موازين القوى. إنها لحظة نادرة يجد فيها الفلسطيني نفسه، وإن بشكل غير مباشر، مدعوماً بضغط شعبي عالمي يعيد تشكيل ملامح السياسة الدولية، في الوقت الذي تراهن فيه واشنطن على فرض «حل نهائي» عبر أدوات الضغط السياسي والاقتصادي، لكنها تجد نفسها أمام بيئة عالمية أكثر تعقيداً.
فالعالم يعيش اليوم تحولات عميقة بعد ما انكشف عجز النظام الدولي عن حماية أبسط القيم الإنسانية، وصعود أصوات الشارع كفاعل موازٍ للسلطة، وتراجع شرعية الخطاب الغربي. وهذا ما نجح أسطول الصمود، وإن مُنع من بلوغ هدفه، في تحقيقه إذ دفع بخطوة في اتجاه إعادة تشكيل الخريطة الرمزية للصراع، وأجبر الجميع على الاعتراف بأن القضية الفلسطينية ما تزال في صلب المعادلة العالمية.
هنا تكمن المفارقة الكبرى: بينما تراهن واشنطن والاحتلال على إنهاك المقاومة ودفعها إلى الاستسلام، يكشف الشارع الأوروبي أن المعركة الحقيقية هي معركة وعي عالمي يتشكل من جديد. ما يحدث اليوم قد يكون بداية مسار طويل، لكنه يثبت أن فلسطين جزء من الصراع على ملامح النظام الدولي المقبل