Print this page

جدل التعليم النموذجي في تونس: بين «الخطاب النخبوي» وشهادات الأولياء والتلاميذ (1)

أُنشئت المعاهد النموذجية في تونس منتصف الثمانينيات كجزء من

سياسة تربوية هدفت إلى الارتقاء بالمتميزين دراسيًا وتهيئة نخبة أكاديمية يُعوَّل عليها في قيادة التنمية الوطنية، ومواكبة التحولات المتسارعة في مجالات العلوم والتكنولوجيا، بما يعزّز موقع المدرسة العمومية في زمن التنافس المعرفي. لكن بعد أكثر من أربعة عقود على إحداثها، لم تعد هذه التجربة محل إجماع، بل أصبحت محورًا لجدل متجدد، يتفجّر مع كل صدور لنتائج الامتحانات الوطنية. جدل يكشف انقسامًا عميقًا لا يقتصر على التقييم التربوي، بل يمتد إلى أسئلة أكبر: من يحدّد معنى التميز؟ ولصالح من يُعاد إنتاج النخبة؟ وهل ما يزال الفرز المبكر داخل المدرسة العمومية مشروعًا عادلًا؟

في قلب هذا الجدل، تتواجه رؤيتان: خطاب نخبوي مغلق يدافع بشراسة عن «قداسة» التعليم النموذجي، وأصوات احتجاجية صاعدة، من الأولياء والتلاميذ، تتحدّى الصمت، مطالبة بإعادة الاعتبار لمبدأ تكافؤ الفرص، وللبعد الإنساني في مفهوم النجاح والتميّز.

يسعى هذا المقال إلى تفكيك الخطاب النخبوي حول التعليم النموذجي، وإعلاء أصوات احتجاج الأولياء والتلاميذ، وكشف نقدهم الجوهري الذي غُيب عن الفضاء العام ودوائر القرار. كما يبرز شهادات حية من الواقع اليومي تعيد للتميّز بعده الإنساني، ويقترح في الختام رؤية بديلة لتجاوز الجدل العقيم، مع التأكيد على دور المدرّس كحجر الزاوية في كل تجديد تربوي حقيقي.

التعليم النموذجي: بين خطاب النخبة المغلق واحتجاجات تتحدّى الصمت

تتكرّر كلّ سنة، وخاصّة عند صدور نتائج الباكالوريا، موجات من الدفاع الشرس عن تجربة التعليم النموذجي، حيث ترتفع أصوات تعتبرها «مكسبًا وطنيًا» و»خطًا أحمر» لا يجوز المساس به. ويُنظر إلى أيّ نقد يطال هذا النموذج على أنّه «تهديد للنخبة» و»تكريس للرداءة»، بل يصل الأمر حدّ اتهام منتقديه «بالتآمر على المدرسة العمومية». وفي كلّ مرة، تعود نفس المواقف إلى الواجهة، خاصّة على منصّات التواصل الاجتماعي، حيث يردّ أنصار التعليم النموذجي على الانتقادات بعنف رمزي يتّسم بنبرة استعلائية، ويزخر باتهامات مبطّنة بالجهل أو بمعاداة النخبة، وكأنّ مجرد مساءلة هذه التجربة يُعدّ «جريمة» وخلطًا للأوراق أو «خلطًا للحابل بالنابل»، كما عبّر أحدهم مستحضرًا هذا المثل الشعبي التونسي.

وقد بلغ هذا الجدل ذروته خلال دورة 2018 لمناظرتي السيزيام والنوفيام، عقب القرار المثير للجدل الذي اتخذه وزير التربية آنذاك، والقاضي بعدم النزول تحت معدل 15 من 20 للالتحاق بالإعداديات والمعاهد النموذجية، رغم أن عدد المقبولين لم يتجاوز نصف طاقة الاستيعاب المخصصة لهذه المؤسسات. إذ لم يُوجَّه سوى 1662 تلميذًا إلى الإعداديات النموذجية، من أصل 3725 مقعدًا، أي بنسبة تغطية لم تتجاوز 41.61%، وهي أدنى نسبة سجّلتها المناظرة منذ نشأتها. وقد انقسمت الآراء حول هذا القرار بين من اعتبره خطوة ضرورية لإعادة الاعتبار لمستوى التميز، ومن رآه إجراءً إقصائيًا وغير عادل.

وفي خضمّ هذا الجدل، نُشرت خلال شهر جويلية 2018، مقالات وتعليقات عديدة، في غالبيتها باللغة الفرنسية، على بعض الصحف والمواقع الإلكترونية، تساند بقوّة قرار وزير التربية، وتحذّر ممّا تعتبره «تساهلاً يهدّد جودة التعليم النموذجي». وقد وردت في هذه المواد عناوين ذات نبرة هجومية واستعلائية، من قبيل «QUI CHERCHE À CONSACRER LA MÉDIOCRITÉ?» («من يسعى إلى تكريس الرداءة؟»)، و»Ne touchez pas à nos lycées pilotes» («لا تقتربوا من معاهدنا النموذجية!»)، وغيرها من المواقف الرافضة لأيّ مراجعة أو إجراء استثنائي بخصوص شروط الالتحاق بهذه المؤسسات، على غرار ما اقترحته بعض الجمعيات التربوية1 .

وفي مقابل هذا الخطاب المدافع عن القرار، برزت مواقف قوية من فئة واسعة من الأولياء المتضررين، الذين عبّروا عن شعور عميق بالحيف والإقصاء، ورفضهم لما اعتبروه قرارًا غير عادل يمسّ بمبدأ تكافؤ الفرص. وقد تجسّد هذا الرفض في تكوين مجموعة «أولياء غاضبون»، التي تحولت إلى فضاء احتجاج رقمي وميداني، رافقته حملات تعبئة واسعة على منصات التواصل الاجتماعي، ونشر شهادات مؤلمة للأولياء وأبنائهم الذين حُرموا من الالتحاق بالإعداديات والمعاهد النموذجية رغم نتائجهم المشرفة2.

وقد عبّر أعضاء المجموعة، في بياناتهم وتدخلاتهم الإعلامية، خلال كامل صيف 2018 عن رفضهم لما وصفوه بمنطق النخبة المغلقة، الذي يربط التميّز بمعايير انتقائية قاسية، كما استنكروا العنف الرمزي الذي قُوبلت به مطالبهم، معتبرين أنّ الدفاع عن التعليم النموذجي لا يجب أن يتمّ على حساب حقوق أطفالهم، ولا أن يتحوّل إلى ذريعة لإقصاء شريحة واسعة من المجتهدين.

وقد تواصل هذا الحضور الرقمي خلال السنوات التالية، وشهد تفاعلًا متجددًا كلما صدرت نتائج الامتحانات الوطنية، لا سيما في جويلية 2021 مع نتائج مناظرة النوفيام، حيث عادت مجموعة «أولياء غاضبون» لتوثّق «المظلومية» وتعبّر عن الفخر بتفوّق الأبناء رغم الإقصاء. عبارات من قبيل: «أخيرًا انتصرنا»، «أولادنا أثبتوا جدارتهم»، «ابنتي التي نُعتت بالرداءة تحصّلت على 18.59»، «نحن مظلومي 2018 كسبنا الرهان»، عكست مزيجًا مؤلمًا من الفخر والمرارة، بين جرح لم يندمل، وإصرار على استرجاع الكرامة وردّ الاعتبار.

يوم 21 جوان 2025، مع صدور نتائج الباكالوريا لدفعة 2018، استعاد الأولياء والتلاميذ الذاكرة الجماعية لـ»ملحمة تربوية» وصفوها بـ»تتويج مسيرة مقاومة الظلم». نشر أحد أولياء التلاميذ الناشطين تعليقًا قال فيه: «اليوم يسدل الستار على ملحمة عظيمة، ملحمة الأبطال، ملحمة المتميزين، ملحمة المتفوقين، ملحمة النموذجيين اللذين تعرضوا لمظلمة ... فقد تفوّق أبطال سيزيام 2018 وافتكّوا أماكنهم في المعاهد النموذجية في مناظرة 2021، واليوم قد تميّزوا في نيل شهادة الباكالوريا. أما أبطال نوفيام 2018 فقد تميزوا أيضا في باكالوريا 2022 وهم اليوم متفوقون في دراساتهم الجامعية... صحيح أن أبناءنا لم يواصلوا دراستهم بالمؤسسات النموذجية بعد صائفة 2018، ولكنهم تعلموا أهم درس في هذه الحياة، درس التشبث بالحق ومحاربة الظلم و الباطل، وحتى إن لم ننجح، فكفانا شرف المحاولة وعدم الاستسلام ونيل الأجر الواحد... صدقوني إن قلت لكم أنه في كل مرة أمر من القصبة أسمع صدى أصوات الأولياء وأبنائنا التلاميذ...» وتوالت التدوينات والتعليقات التي عبّرت عن فخر الأولياء بتفوّق أبنائهم رغم الإقصاء، مؤكدة صمودهم ونجاحهم دون امتيازات، ومتضمّنة في الآن ذاته تهاني بالتفوّق وعرضًا لمعدلات متميزة.

قراءة في خلفيات الخطاب النخبوي وديناميات تأثيره

رغم قلة المدافعين عن النموذج النخبوي، إلا أنهم يشكلون نخبة ذات ثقل ثقافي وسياسي كبير، وأصواتهم تحظى بحضور واسع في الإعلام وتأثير ملموس على صانعي القرار. وربما يُعزى ذلك إلى:

1. اعتماد اللغة الفرنسية، التي تحمل رمزية اجتماعية راسخة في المخيال النخبوي والإداري التونسي.

2. قدرة التعبير العالية التي تجعل خطابهم متناسقًا وجذابًا، متناغمًا مع الذوق الرسمي السائد في الفضاء العمومي.

3. تقاطع مصالحهم مع دوائر القرار التربوي، وتأثرهم الجزئي بالنموذج الفرنسي المركزي في تصور النخبة.

كل ذلك يُعزز ما يمكن تسميته بـ»ثقافة الاستعلاء التربوي» - أي تصور يُدار فيه التعليم من الأعلى، وفق رؤية نخبويّة لما يجب أن يكون عليه المجتمع، لا وفق حاجاته وتحولاته الفعلية. وقد نبّه تقرير البنك الدولي (2001) إلى هذه الإشكالية، معتبرًا «هيمنة ثقافة النخبة على إدارة الشأن التربوي لدى الإداريين والمدرسين والأولياء»، من بين أبرز أسباب فشل إصلاح المنظومة التربوية. وهي ملاحظة تردّد صداها في كتاب الخبيرة الأوروبية في التجديد التربوي فرانسواز كروس، الذي تناول بعض جوانب إصلاح 2002 في تونس3.

وفي ختام تحليلنا لملامح الخطاب النخبوي، نتساءل: أليس من المفارقات أن تتحوّل النخبة التي ترفع شعارات «الجودة» و»التميز» إلى حارس للوضع القائم، تكرّس ما هو سائد بدل الدفع نحو التغيير؟ ألا يُفترض أن يكون الدور الطبيعي لكل نخبة -خاصة في مجال حيوي كالتربية- هو المساهمة في تجديد الرؤية، لا إعادة إنتاج أنماط التفوق القديمة؟

 بقلم: د.مصطفى الشيخ الزوالي

مستشار عام خبير في الحياة المدرسية 

-------------

1 - هذا نموذج من المقالات المذكورة :

Collèges et lycées : Une proposition vraiment saugrenue de lAssociation tunisienne pour l’éducation de qualité 17juillet 2018 https://www.webmanagercenter.com

2 - تأسست هذه المجموعة الفايسبوكية في جويلية 20218 وتضمنت مختلف الآراء والتحركات التي قام بها الاولياء واستمرت لاحقا تحت اسم جديد «أولياء ومربون متحدون» . بلغ عدد المنخرطين فيها حوالي 10 الاف عضو (تاريخ آخر زيارة في 30 جوان2025)

3 - Cros,F.(2008) : le pari du projet décole en Tunisie . UNECEF p.12-13

يتبع

 

المشاركة في هذا المقال