إلى السيد وزير التعليم العالي: في مسائل الخارطة الجامعيّة والبحث العلمي والإنتاج الأكاديمي

إنّ إعادة النظر في واقع الخارطة الجامعيّة من المسائل الموضوعيّة في المرحلة الراهنة، فبعد عامين تحتفل الجامعة التونسيّة بالذكرى الستّين لتأسيسها، وعلى وزارة التعليم العالي أن تستشرف من الآن تقييم وضع الجامعة ومؤسّساتها وأهدافها الموضوعة ضمن سياسات الدولة واختياراتها السابقة قبل 14 جانفي 2011

وبات من الضروري تعهّدها بالمراجعة والتجديد في ضوء طموح السياسات الحاليّة وسعيها إلى تعزيز المجهود الوطني وضمان جدواه في حقل التعليم العالي والبحث العلمي، خاصّة في علاقته باستحقاقات التنمية والتطوير في المناطق الأقلّ حظّا.

في دعم المؤسسات الجامعية الداخلية
لا يخفى على كلّ عاقل دور الجامعة ومؤسّساتها التدريسيّة والبحثيّة في التشجيع على ابتكار المشاريع ودفع الاستثمار والنموّ في المجالين الاقتصادي والاجتماعي بهدف الرقيّ بالإنسان التونسي ونوعيّة حياته، ولنا في واقع المناطق الشرقيّة خير مثال حضاريّ في هذا الاتّجاه الذي انتهجته تونس خلال بعث الجمهوريّة الأولى وما واكبها من تأسيس أوّل جامعة بالعاصمة سنة 1958 أصبحت اليوم 5 جامعات ازدهرت وتدعّمت بـ 4 جامعات أخرى اتّخذت من الشريط الساحلي مستقرّا لها في علاقة جدليّة بعوامل النموّ ومظاهر التطوّر التي شهِدَتْها مناطقُهُ. لم يمنع ذلك من استحداث 3 جامعات داخل البلاد في اتّجاه الوسط بالقيروان، والجنوب الغربي بقفصة، والشمال الغربي بجندوبة، هذا بالإضافة إلى جامعة تونس الافتراضيّة وشبكة المعاهد العليا للدراسات التكنولوجيّة، وهو انتشار إيجابيّ نرجو أن يتدعّم في ضوء احتياجات المناطق الداخليّة استجابةً لحقّها وطموحها الوطني في الإفادة من مكتسبات المعارف والعلوم والتكنولوجيّات الحديثة التي يوفّرها التعليم العالي ومن نتائجها حفز التنمية والتشغيل وتوفير أسباب العيش الكريم في تلك المناطق عبر حثّ أبنائها من الشباب الواعد على الإبداع الذاتي والعمل على تنمية ثرواتهم المحلّيّة والإفادة منها في تطوير ظروف حياتهم وتحسين نوعيّتها بما يساعد حتّى على استحثاث هجرة معاكسة في اتّجاه المناطق الداخليّة، حتّى الريفيّة منها، المتميّزة بجمال طبيعتها وتنوّع مواردها، كما يحدث اليوم في أغلب المجتمعات النامية عندما تتوفّر البرامج والموارد والإرادات وتتجسّم من خلال تأهيل الأوضاع المادّيّة والبشريّة وتطويرها.

إنّ عقليّة الإبداع والابتكار هي التي نريدها أن تكون رائدة وسبّاقة من خلال برنامج الوزارة في دعم المؤسّسات الجامعيّة الداخليّة وتفعيل دورها لا في مستوى البناء اللائق والتجهيز المُحكَم فقط، بل وكذلك في مستوى دعم إطار التدريس والتكوين والبحث والتأطير وإمكانيّاتها في اختصاصات ملائمة للأوضاع الاجتماعيّة والاقتصاديّة ولتطلّعاتها التنمويّة المشروعة. لا بدّ حينئذ من التفكير في المستوى الوطني في بعث أقطاب/علميّة تنمويّة تُجَمّع جامعات ومراكز ومؤسّسات متكاملة الاختصاصات - في انتظار أن تتهيّأ الأوضاع لِمَ لَا لتأسيس أقطاب إقليميّة تربط الصلة العلميّة بجامعات شقيقة من دول المغرب العربي أو أوروبا في إطار اتفاقيّات تعاون وشراكة - تكون هذه الأقطاب الوطنيّة منغرسة ضمن شبكة نسيجها الاجتماعي، منفتحة مرنة في حراكها العلمي والطلاّبي، تأخذ بأيدي بعضها البعض وبأيدي باحثيها ومدرّسيها وطلبتها من مختلف المناطق والاختصاصات، وإنّ الجامعة العريقة في مثل هذه الأقطاب لَتَدْعم الجامعة الناشئة بخبرتها وتجربتها في سياق خطّة مرحليّة واضحة المعالم لتطوير التعاون الأفقي بين الجامعات، وللاستشراف العلمي متعدّد ومُدمَج الاختصاصات، عبر هياكل وآليّات تدريس وبحث منخرطة في منظومات العمل والإنتاج والتطوير وتبادل التجربة والخبرة والنفع. بمثل هذا التمشّي يكون التعليم العالي من خلال خارطة جامعيّة عادلة ومتوازنة مساهما فاعلا في تشجيع الإبداع وحفز الاستثمار وخلق التنمية في كلّ مناطق البلاد التونسيّة انسجاما مع البرنامج الذي تعهّدت به حكومة الوحدة الوطنيّة.

في مسألتَيْ البحث العلمي والإنتاج الأكاديمي
إنّ واقع البحث العلمي والإنتاج الأكاديمي، رغم الهياكل القائمة والجهود المبذولة، يشكو من عدّة صعوبات تعجز هذه الرسالة عن استيعاب تفاصيلها، وأغلبُ الصعوبات يكمن في التفاصيل التي تواجه الباحثين وهم على الميدان عندما تضيق بهم السُبُل والمسالك فيجدون أنفسهم مُكبَّلين بقيود وعراقيل وضغوط لا مفرّ منها. يمكن في هذا السياق الإشارة إلى بعض تلك الصعوبات في علاقة أصبحت «مألوفة» بالروتين الإداري وتسلسله، وبالقوانين المنظّمة والمسيّرة التي تحتاج إلى مراجعة وتحيين، وبالموارد والإمكانيّات المحدودة، وآليّات التقييم والمتابعة الفوقيّة، إضافة إلى التجاوزات التي قد يكون الباحث عرضة لها في خرق واضح للقيم البحثيّة والأكاديميّة.

هذه العراقيل قائمة في وجه العمليّة البحثيّة التي نعتبرها سَنَدَ التعليم العالي ومحرّكَهُ وأداةَ ترقّيه وإشعاعه، وننتظر منكم تدخّلا سريعا وفاعلا يظهر أثره الإيجابي في أقرب وقت ممكن. أكاد أدعو في هذا السياق - وأنا أستحضر مسيرتي البحثيّة الطويلة - إلى تكوين خليّة إنصات للاستماع للباحثين على اختلاف درجاتهم الذين يعيشون يوميّا كلّ أشكال الصعوبات، خاصّة ما اتّصل منها مثلا بخرق القانون في تعطيل وحدات بحث جادّة ومنتجة في مستوى وطني ودولي أفنى باحثوها في بنائها وإشعاعها سنوات طويلة، وفي النهاية عجزوا عن إنقاذها من الإيقاف التعسّفي رغم صبرهم ومثابرتهم ومراسلتهم الإدارتَيْن الجهويّة والمركزيّة دون جدوى. ومن «المضحكات المبكيات» أنّه بعد تعطيل مؤسّسة البحث يُصرّ الباحث رغم ذلك على مواصلة بحثه – وفي المثال الذي أذكره يتعلّق البحث «بظاهرة العنف الديني والإرهاب» – بلا هيكل يحتضِنُهُ، لكنّه سيجد أمامه عراقيل أخرى تحرمه في النهاية من المساهمة في دعم المجهود الوطني الذي أقرّته وزارة التعليم العالي لمقاومة هذه الظاهرة، لكن سرعان ما تتلقّف بحثَهُ المُعطَّلَ في جامعته ووزارته مراكزُ بحثٍ دوليّةٍ إستراتيجيّةٍ لتنشره وتثمّنه مادّيّا ومعنويّا.

هذا مثال من أمثلة عديدة تعرقل البحث في الإنسانيّات الدينيّة عشته في مرارة، عزائي وفخري أنّ دراساتي المنشورة أظهرت على غلافها الخارجي نسبتها للجامعة التونسيّة ووحدة البحث المُعطَّلَة، بتّ أعتقد أنّ الإنصات المباشر إلى «معاناة» الباحثين ستكشف أمثلة من التعطيل لا تُقبَل. ولكن في اتّجاه آخر من البحث نراه وَاعِدًا ننتظر منكم تفعيل اتّفاقات التعاون الدولي المبرَمَة مثل اتّفاق «أفق 20-20» الذي يمنح تونس مرتبة الشريك المتميّز للاتّحاد الأوروبي لإعطاء الباحثين التونسيّين في عديد الاختصاصات فرصا للتميّز، ومَنْح الجامعات موارد إضافيّة لدعم تجهيزاتها وتعصيرها والرفع من قدراتها ومجالات إشعاعها.

محسن التليلي:

 أستاذ الحضارة بجامعة سوسة

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115