«بي دي أس» و النضال من أجل تحرير فلسطين

بقلم: أحمد عباس و حيدر عيد *
انتشرت في الفترة الأخيرة العديد من المقالات والأبحاث, وأقيمت المؤتمرات عن حركة المقاطعة وعدم الاستثمار وفرض عقوبات على إسرائيل, المعروفة

بالأحرف الإنجليزية بي دي أس ( (BDS) .و تأتي بعض هذه المؤتمرات و التجمعات كرد فعل على تنامي الحركة و سعي إسرائيل لمحاربتها بشتى الوسائل. تأتي هذه المقالة المشتركة لتصحيح بعض المغالطات عن الحملة و التعريف بها و بقيادتها الفلسطينية.

علينا أن نوضح و بشكل لا لبس فيه أسباب دعوتنا للمقاطعة وسحب الاستثمار وفرض العقوبات على دولة الاحتلال وتعبير الحملة عن أوسع قطاع شعبي مدني في فلسطين و الشتات. لماذا تصر الغالبية الساحقة من ممثلي الشعب الفلسطيني بمكوناته الثلاثة على ضرورة تبني المقاطعة كخيار كفاحي متجذر في عقود من المقاومة الشعبية والأهلية الفلسطينية للاستعمار الاستيطاني وكخيار أثبت جدواه حديثاً في تجربة جنوب أفريقيا ضد نظام التمييز العنصري، الأبارتهايد؟ نعتقد أن الإجابة على هذا السؤال, وبالذات في هذه اللحظة التاريخية, تكتسب أهمية خاصة بسبب الهجمات التطبيعية العربية المسعورة مؤخراً، إن كان على الصعيد الدبلوماسي, أوالإقتصادي, أو الأمني,أو على صعيد شركات أنظمة المعلومات والتكنولوجيا.

ولمحاولة الإجابة على هذا السؤال دعونا في البداية نتساءل عن تعريف الشعب الفلسطيني والأهداف النضالية التي يسعى إلى تحقيقها في إطار حق تقرير المصير الذي كفلته الشرعية الدولية. أي أن تساؤلنا, وحتى لا نُتَّهم بالعدمية, براغماتي بحت وفي إطار ما اتُفِق عليه دولياً وعربياً. ما هي الإستراتيجية النضالية التي تكفل مشاركة القوى السياسية والمدنية برمتها من أجل تطبيق حق تقرير المصير كما نعرفه وعرفته الشرعية الدولية؟ بمعنى آخر, هل هناك أي إمكانية للوصول الى سلام عادل يضمن تطبيق حق العودة لكل من أراد من اللاجئين الفلسطينيين تبعاً لقرار الأمم المتحدة 194؟ و هل من الممكن, عملياً, القضاء على القوانين و الممارسات العنصرية الممأسسة في الدولة الإسرائيلية؟ و كيف يمكننا إجبار إسرائيل على الإنسحاب الكامل من الأراضي العربية التي احتلتها عام 1967؟

بالتأكيد تختلف الظروف، وبالتالي معايير المقاطعة، من موقع إلى آخر، إلا إن المنطق الأساسي لحركة المقاطعة يبقى واحداً، وهو تفعيل وتعزيز كافة أشكال الضغط المتاحة على إسرائيل والمؤسسات والشركات المتواطئة في اضطهادها المركّب للشعب الفبسطيني، بما يراعي خصوصية السياق في كل موقع ويضمن الاستدامة والفاعلية، من أجل استعادة الحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني وأهمها التحرر والعودة إلى الديار وممارسة حقه غير القابل للتصرف في تقرير مصيره على أرضه. من هذا المنحى، فإن مقاطعة إسرائيل هي استراتيجية رئيسية في مقاومة الاحتلال والأبارتهايد الإسرائيلي، تهدف إلى عزل إسرائيل دولياً ومقاومتها داخلياً وعربياً لتعديل موازين القوى لصالح الشعب الفلسطيني ونضاله لنيل حقوقه. لا يمكن القيام بذلك دون فك التبعية واستهداف التطبيع بأشكاله والتزام سياسيينا ومثقفينا وفنانينا ورياضيينا و أكاديميينا و علمائنا العرب، قبل غيرهم، بقطع كل العلاقات الطوعية التي تسهم، بغض النظر عن نواياهم، في تعزيز الهيمنة الإسرائيلية وصورة “الحالة الطبيعة” التي تروجها إسرائيل دولياً.

إن الخطر الأكبر, و الذي يُستخدم من قبل القوى التطبيعية, هو أن البراغماتية السياسية تتطلب فهم الواقع الدولي, و لكن, و للأسف, من منظور المُضطهِد. و الواقع الدولي, من هذا المنظور, يرى أن الشعب الفلسطيني يتشكل من السكان الواقعين تحت الإحتلال العسكري الإسرائيلي منذ عام 1967. و عليه فإن فلسطينيي ال 48 يحذفون من تعريف الشعب الفلسطيني. أضف الى ذلك أن حوالي نصف الشعب الفلسطيني يعيش في الشتات نتيجة عملية التطهير العرقي التي مورست ضدهم/ن عام 48 وبعدها, وجزء هام منه في الوطن هم من اللاجئين. أي أن إنهاء الاحتلال وحده لا يكفل الحقوق الاساسية لمعظم أبناء الشعب الفلسطيني، بل يحرم هذه الغالبية من حقها غير القابل للتصرف في ممارسة تقرير المصير. فقد أصبح التعريف السائد منذ عام 1993 ,أي منذ توقيع اتفاقيات أوسلو الكارثية, أن الشعب الفلسطيني يتكون من سكان الضفة الغربية و قطاع غزة, و أن النضال الفلسطيني يهدف, في المحصلة النهائية, للحصول على (إستقلال) هاتين البقعتين الصغيرتين بعد إنسحاب قوات الإحتلال الإسرائيلي لما بعد, أو داخل,حدود67. و لخلق حقائق على الأرض, فإن إسرائيل قامت بالفصل الكامل بين هذه الفئات السكانية ومنعت أي تواصل بينها بشكل يفوق بمراحل ما فعلته قوات الفصل العنصري في جنوب أفريقيا في القرن الماضي.

تكمن قوة نداء المقاطعة الفلسطيني (BDS) الصادر عام 2005 عن أكثر من 170 حزبا ونقابة ومؤسسة وحركة في المجتمع الفلسطيني، والذي يتمحور حوله الآن إجماع فلسطيني غير مسبوق، في هضمه تجربة النضال الفلسطيني الطويلة واستيعابه لدروس التجربة الجنوب أفريقية, و بالأخص مواجهة المجتمع الدولي بواجباتهِ والشرعية التي يدعي أنه يقوم على أساسها. يطالب النداء بحقوق الشعب الفلسطيني الأساسية وأهمها: إنهاء الإحتلال الإستيطاني وتطبيق قرار الأمم المتحدة 194 الذي ينص على عودة اللاجئين الفلسطينييين الى قراهم ومدنهم التي اقتلعوا وهُجّروا منها عام 48, و إنهاء القوانين والسياسات العنصرية الممأسسة ضد فلسطيني/ات 48. و هكذا فإن تشكيل اللجنة الوطنية للمقاطعة قد أعاد النضال الفلسطيني ضد احتلال عسكري مباشر, و تطهير عرقي ممنهج, و تفرقة عنصرية بغيضة الى أبجدياته التي كانت قد أصابها الكثير من الضرر نتيجة مغامرات سياسية ضارة وغير مدروسة. وبالتالي تمت العودة الى التعريفات الرئيسية التي لا تميز فئة فلسطينية على حساب الأخرى، بل تصر على وحدة الشعب الفلسطيني في كل مكان ووحدة نضاله من أجل الحرية والعودة وتقرير المصير.

و كانت الحملة الفلسطينية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل قد انطلقت عام 2004، ولعبت دوراً رئيسياً في إطلاق نداء المجتمع المدني الفلسطيني عام 2005 لمقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها (BDS). انبثقت اللجنة الوطنية للمقاطعة عن المؤتمر الوطني الفلسطيني الأول لحركة مقاطعة إسرائيل عام 2007، وأصبحت منذ ذلك الوقت تقود حركة المقاطعة عالمياً. تتشكل اللجنة الوطنية للمقاطعة من القوى والاتحادات الشعبية الكبيرة (العمال، المرأة، الكتاب، الفلاحين، إلخ) وجميع الاتحادات النقابية والائتلاف العالمي لحق العودة (أوسع ائتلاف يدافع عن حقوق اللاجئين) وشبكات المؤسسات الأهلية وغيرها من أهم وأكبر الأطر التي تمثل كل قطاعات الشعب الفلسطيني في الوطن والشتات. إن هذا التحالف، وهو الأوسع فلسطينياً دون منازع، لا يمثل الشعب الفلسطيني سياسياً، بل بالتأكيد يستطيع التحدث باسمه في ما يتعلق باستراتيجية مقاطعة إسرائيل وأهدافها: إنهاء الاحتلال وإنهاء الأبارتهايد وتمكين ممارسة حق العودة إلى الديار. و بالتالي فإن كل حملة مقاطعة في العالم تقوم بالتنسيق مع هذه القيادة.

وكثيراً ما نُسأل عن إنجازات حركة المقاطعة, في محاولة خبيثة, و في أفضل الأحوال جاهلة, للتقليل من أهميتها, وهي التي أعتبرتها الحكومة الإسرائيلية “خطراً استراتيجياً” بل “وجودياً” على دولة الاحتلال. وسنذكر في هذا السياق بعض الأمثلة عما حققته الحركة في الأشهر الأخيرة فقط: فقد انضم العالم الفذّ، ستيفن هوكنغ إلى مؤيدي مقاطعة إسرائيل حين انسحب من المؤتمر الرئاسي الذي يرعاه شمعون بيريس. كما قام اتحاد أساتذة ايرلندة بالإجماع, في خطوةٍ هي الأولى من نوعها يتم اتخاذها من قبل إتحاد أساتذة في العالم, بتبني نداء المقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل. وكانت جامعة جوهانسبورغ الجنوب أفريقية قد قامت بخطوةٍ ريادية قبل عامين وذلك من خلال إنهاء علاقاتها الأكاديمية والبحثية مع جامعة بن غوريون الإسرائيلية. و يأتي ذلك بعد إصدار العديد من اتحادات الطلبة في جامعات بريطانية, أمريكية, جنوب أفريقية, اسكتلندية, ايرلندية, و غيرها, قرارات إما بالمقاطعة أو دعوة إدارات جامعاتها إلى عدم الإستثمار في اسرائيل أو في شركات تستفيد من ممارسات اسرائيل القمعية ضد الشعب الفلسطيني, وتعديها على القانون الدولي والقانون الإنساني. ما يميز هذه الخطوات الهائلة أنها تأتي مكملة لتلك التي اتخذها العديد من اتحادات النقابات الكبيرة للعمال في كل من جنوب أفريقيا, بريطانيا, إيرلندة, اسكتلندة، كندا والعديد من الدول الأوروبية. و هذا لا يمكن فصله بأي شكل من الأشكال عن استجابة عدد كبير من الفنانين/ات والكتاب للنداءات التي وُجِّهَت إليهم/ن بعدم الغناء أو زيارة دولة الاحتلال إذا كان يعنيهم/ن حقا القانون الدولي وحقوق الإنسان. أضف إلى ذلك الخطوة التاريخية التي قامت بها 9جمعيات أكاديمية أمريكية بتبني المقاطعة الأكاديمية لإسرائيل. كما يأتي في الوقت الذي تبنى فيه اتحاد الطلبة الناطقين بالفرنسية في بلجيكا (يمثل 100,000 من الطلبة) مقاطعة كل الجامعات الإسرائيلية. وعلى الصعيد الإقتصادي انخفضت «الاستثمارات العالميّة المباشرة» 46 % سنة 2014 بالمقارنة مع العام2013 , بحسب تقرير للأمم المتحدة, كماخسرتْ «فيوليا» عقودًا هائلة في اوروبا والولايات المتحدة والكويت بسبب عملها في مجال البنى التحتيّة في المستوطنات الإسرائيليّة. كذلك في اكتوبر 2011 أعلنت اللجنة الوطنيّة لحملة بي دي. أس أنّ آلستوم (الفرنسيّة) خسرت المرحلة الثانية من المناقصة للفوز بمشروع بناء سكك حديديّة تربط مكّة المكرّمة بالمدينة المنوّرة، وقيمتُه 10 بلايين دولار، بسبب الضغوط التي مارستها الحملة العالمية وحملة «كرامة» الأوروبيّة ضدّ الشركة وفي أفريل 2015 باعت معظمَ أعمالها في الكيان الصهيونيّ. كما خسرتْ شركة «البيت» الإسرائيليّة للسلاح عقدًا برازيليًّا ضخمًا بعد أن دعت حركاتُ المقاطعة الحكومةَ البرازيليّة إلى ذلك الأمر بسبب ضلوع «البيت» في أعمال بناء جدار الفصل العنصريّ الإسرائيلي وعلاقاتها الوثيقة بالسلطات العسكريّة الإسرائيليّة. أضف إلى ذلك الخسارة التي تكبدتها جي 4 أس و هي شركة بريطانيّة توفّر معدّاتٍ وخدمات أمن للسجون والمعتقلات ومراكز التحقيق والتعذيب والحواجز الإسرائيليّة, كذلك قرار شكرة أورانج الفرنسية بالانسحاب من اسرائيل بعد حملة كبيرة قامت بها حركة المقاطعة في مصر ضد الشركة و تعاونها مع شكرة بارتنر الإسرائيلية و الدور الذي قامت به بتوفير الدعم لجنود الاحتلال خلال الحرب الإبادية على غزة عام 2014.

و لا يتسع المجال هنا لذكر كل النجاحات التي حققتها الحركة و لكن أي قراءة دقيقة للقرارات التي تتخذها هذه النقابات والاتحادات ومنظمات المجتمع المدني تنص وبشكل لا لبس فيه بأنها تأتي استجابة لنداء المقاطعة الفلسطيني الصادر عام 2005, أو لنداء المقاطعة الأكاديمية الصادر عام 2004 عن الحملة الفلسطينية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل.

إن حركة مقاطعة إسرائيل، رغم شعبيتها الواسعة، لم ولن تنصّب نفسها وصية على وطنية أحد، فأعضاء الحركة هم متطوعون ونشطاء في هذا الشكل من أشكال المقاومة، لا يتلقون دعما ماليا من دول نفطية أو غيرها. وقد تم التوافق بين أكبر أطر ومؤسسات المجتمع المدني على تفعيل المقاطعة من خلال مجموعة من المعايير التي تهدف إلى خلق قاسم مشترك مقبول وواقعي يلتزم به الفلسطينيون و العرب وكل النشطاء الدوليين المؤيدين للحقوق الفلسطينية كوسيلة للضغط على اسرائيل. وترى حركة المقاطعة أن من دورها نشر هذه المعايير والرد على استفسارات الجمهور والشركاء العالميين بخصوصها ومواجهة محاولات خرقها، سواء من قبل فلسطينيين أو عرب أو دوليين، بأسلوب أخلاقي يستند دائماً إلى المعايير الجماعية المنشورة، لا على الآراء والمشاعر الفردية لهذا الناشط أو المركز البحثي أو التنظيم أو ذاك. ومن المثير للاستغراب أنه و في نفس الوقت الذي تتلقى به الحركة عدداً هائلاً من الاستفسارات من قبل الفنانين والمثقفين والأكاديميين والطلبة وحتى العاملين في قطاع الأعمال، كما من المؤسسات المختلفة حول معايير المقاطعة وتفسيراتها في سياق مشاريع عينية، مما يعكس احترام عدد كبير جداً لهذه المعايير ولمرجعية اللجنة الوطنية للمقاطعة، ومن ضمنها حملة المقاطعة الأكاديمية والثقافية, تحاول بعض الأوساط, ومنها عربية و فلسطينية, إنكار الدور القيادي للجنة الوطنية للمقاطعة و تقوم بعقد مؤتمرات و لقاءات بدون الرجوع أو التنسيق مع ممثلي الحركة في فلسطين و الشتات!

لفد قررنا كنشطاء مقاطعة في الفترة ألخيرة مراجعة الكثير من الحسابات والأولويات لأن دماء أطفال غزة التي سالت في 2009 و 2012 و 2014, والحصار الذي مازالت تفرضه اسرائيل عليها والذي وصفه المقرر الخاص للأمم المتحدة ريتشارد فولك, «بالإبادي», و النكبة الثانية التي يعيشها اللاجئ الفلسطيني في سورية, والقوانين المغرقة في عنصريتها ضد فلسطيني 48, واستمرار بناء الجدار والمستعمرات في الضفة والقدس، واستمرار التطهير العرقي الممنهج ضد أبناء القدس والأغوار والنقب، كلها تحتم علينا تكثيف جهودنا الجماعية لعزل اسرائيل بالضبط كما عُزل النظام العنصري في جنوب أفريقيا على الرغم من كل محاولات إنقاذه من قبل «الأصدقاء» و دعوتهم «للحوار البناء». إن هذا النظام يرقد الآن في قاع مزبلة التاريخ.

و من الملاحظ أن القيادات الإسرائيلية من يمينها إلى أقصى يمينها قد أجمعت , في خضّم سلسلة التحريضات المتطرفة المتتالية ضد حركة المقاطعة و عدم الاستثمار و فرض عقوبات على اسرائيل, بي دي اس , ذات القيادة الفلسطينية, على رأي واضح و صريح ألا وهو ضرورة القضاء على الحركة قبل أن تتمكن من تحقيق أهدافها المتمثلة في الحرية و العدالة و المساواة . و اتفق هؤلاء على أن بي دي اس تعتبر « خطراً استراتيجياً « على نظام إسرائيل الإضطهادي المركب من احتلال و استعمار وأبارتهايد.

ووصلت التهديدات الإسرائيلية درجة عالية من الخطورة حيث قام وزير الداخلية آرييه درعي بالدعوة إلى طرد بعض نشطاء المقاطعة من فلسطين بحجة أنه : «لا يمكنك إعطاء خدك الأيسر لمن يصفعك على خدك الأيمن». أما أخطر تهديد فقد جاء من وزير الاستخبارات يسرائيل كاتس , الذي استخدم لغة غامضة لإرسال رسالة إرهاب إلى نشطاء المقاطعة الفلسطينيين و العالميين قائلاً : « من الأفضل لكم إيقاف بي دي اس و إلا فإننا سنقوم ( باغتيالات مدنية )». وأضاف موضحاً : « يجب أن نعمل على فضح الجهات الفاعلة, الأشخاص , النظام , الآليات , و صلاتهم بالمنظمات التي تخطت بالفعل عتبة النشاط العسكري و الإرهابي , و قطعاً من خلال هذا نستطيع التصدي لهم و القيام بعزلهم و نقل المعلومات إلى وكلاء الاستخبارات في جميع أنحاء العالم. يجب أن نعلم أننا هنا في مواجهة معركة تحت غطاءات عديدة».

حملة المقاطعة الفلسطينية لإسرائيل لا تؤمن بـ»القوائم السوداء» ولا تخوّن أحداً، كما لا تمنح الأوسمة لأحد، ولكنها تناضل من أجل توسيع دائرة التأييد الفلسطيني والعربي والدولي لمقاطعة إسرائيل في كافة المجالات للمساهمة في الوصول إلى حقوق الفلسطينيين، دون انتقاص. تقف في صف هذه الحركة الغالبية العظمى من الأدباء والفنانين والأكاديميين الفلسطينيين وعدد مهم من نظرائهم العالميين. في هذا السياق، تتنامى الحاجة إلى تعزيز الالتفاف الجماهيري الفلسطيني والعربي الواسع لمقاطعة إسرائيل ومعايير هذه المقاطعة، كما تزداد الحاجة إلى مشاركة كل مثقفينا وفنانينا لا في نشر ثقافة المقاطعة فحسب، بل والمساهمة الفاعلة والإيجابية في سيرورة تطوير معايير المقاطعة باستمرار للتلاؤم مع الواقع المتغير وضرورات النضال من أجل الحرية والعدالة.

للفلسطينيين حق على المجتمع المدني الدولي أن يتضامن معهم ويوقف تواطؤه في جرائم إسرائيل لأنهم أصحاب الأرض الأصليون, مُضطهَدون من قبل إحتلال استيطاني عنصري مستمر بسبب تواطؤ حكومات وشركات ومؤسسات الغرب بالأساس، بشكل يخالف ليس فقط الأخلاقيات والمثل الإنسانية العليا, بل الحد الأدنى من الشرعية الدولية كما عٌرِّفِت بعد الحرب العالمية الثانية. وبسبب الفجوة الهائلة في موازين القوى بين المضطهِد والمضطهَد, والخلل الكبير في الدعم الذي تقدمه القوى الكبرى «الصديقة» (للطرفين), فإن للفلسطينيين حق على المجتمع الدولي المدني بأحزابه, مساجده, كنائسه, نقاباته, جامعاته, فنانيه, مثقفيه, طلابه...الخ أن يتخذ القرار الأخلاقي الذي يقدر عليه الا وهو ما فعله ضد نظام التفرقة العنصرية: المقاطعة وسحب الإستثمار وفرض عقوبات على إسرائيل حتى تنصاع لقرارات الشرعية الدولية كاملةً! و هذا ما تركز عليه حركة المقاطعة كونها أسلوبا نضاليا لا عنفيا يعتمد على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان من حيث رفضها لكل أشكال التمييز بما فيها معاداة السامية و العنصرية و الإسلاموفوبيا. و هذا ما جعل نشطاء يهودا مؤيدين لحقوق الإنسان الانخراط في حملات المقاطعة, بل الترويج لها, كما تفعل منظمة يهود من أجل السلام.

أحدنا, حيدر عيد, يعيش في غزة المحاصرة , و كان شاهداً على ثلاث حروب شنيعة ارتكبتها إسرائيل بحق القطاع . و كان على وشك أن يفقد حياته أكثر من مرّة , لكنه فقد رفاقاً مقرّبين , زملاءَ , أقاربَ , و طلاباً. و كباقي أبناء قطاع غزة الصامد عاش صدمة نفسية لا تصفها كلمات بعد أن رأى الرعب بكل أشكاله . فضلاً عن أنه مُنع من حضور جنازتي والده ووالدته , و حُرم من رؤية شقيقته و أبنائها منذ أكثر من 16 عاماً حتى اليوم , رغم أنهم يقطنون في بيت لحم التي تبعد مسافة ساعة واحدة بالسيارة من غزة , و يعيش, كباقي أبناء القطاع المحاصر, ظروفاً حياتية صعبة بلا كهرباء و لا مياه صالحة للشرب منذ 2006 . وكشخص رأى مذبحة أطفال عائلة بكر على شاطئ غزة و في وضح النهار, و قرأ بمرارة أسماء أفراد 66 عائلة مُسحت من السجّلات المدنية بعد إبادتها بشكل كامل بالأسلحة الإسرائيلية , كان عليه أن يحارب بوعيٍ تامٍ إمكانية أن يتحول إلى مجرد رقم في تقاريرٍ إخباريٍة غربية لا يهمها سوى الأرقام إذا كانت الضحية فلسطينية!

إن 2200 إنسان من بينهم 551 طفلا في العام 2014 , و مثلهم 1200 إنسان من بينهم 443 طفلا في العام 2009 , بالإضافة إلى 200 إنسان في العام 2012 , لم يحالفهم الحظ, و كانوا ضحايا الآلات الحربية الإسرائيلية و مؤامرة الصمت الدولية. ألا يكفي ذلك للعمل عىل مقاطعة المجرم و عزله؟!

وكما ذكر المطران دزموند توتو، وهو ممن قادوا النضال ضد الأبارتهايد في جنوب أفريقيا، في معرض تأييده لحركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها (BDS):

“تماما كما قلنا خلال حقبة الفصل العنصري أنه من غير الملائم لفنانين عالميين تقديم عروض في جنوب أفريقيا، في مجتمع يقوم على قوانين تمييزية وإقصائية عنصرية، سيكون من الخطأ لأوبرا كيب تاون أن تقيم حفلاً في إسرائيل”.

إن المأساة الحقيقية لفلسطين ما بعد أوسلو لا تكمن في أن الغالبية الساحقة من الفلسطينيين لم يتم سؤالهم إذا ما كانوا يريدون حقاً حكماً ذاتياً إداريا محدوداً , بل أنهم حُرموا من استخدام أدوات للتفاوض حول خلق واقع جديد يتخطى الأمر الواقع الذي فرضه الاحتلال. ألم يصبح من الواضح وضوح الشمس أن نظام الفصل العنصري الإسرائيلي قام بالتوقيع على اتفاقيات أوسلو و قدم للفلسطينيين “ حكما ذاتيا محدودا “ , لأن هذا لا يكلّفه شيئا ! من هنا تأتي أهمية حركة بي دي اس , و التي تعبّر عن تصميم الشعب الفلسطيني على تطوير خطابه الفلسطيني , و رغبته في تحقيق العدالة و المساواة. بكلمات أخرى , إن ما يحرّك بي دي اس هو الرغبة الواعية في تحرير العقل الفلسطيني من سرطان الاستعمار , و من فيروس أوسلو , في طريقه للوصول إلى التحرير بعيداً عن هلوسة “ الاستقلال “ التي تتصّدر الواجهة .

كان أيقونة النضال المدني ضد الاستعمار البريطاني المهاتما غاندي قد أخبرنا أنهم « في البداية يتجاهلونك , ثم يضحكون عليك , ثم يحاربونك , ثم تنتصر»، و بالنظر إلى إنجازات المقاطعة في العشر سنوات الأخيرة حتى اليوم , نستطيع أن نقول أننا الآن ننتصر .

فكما قال أيقونة النضال ضد الأبارتهيد العنصري نيلسون مانديلا : « إن حرية جنوب افريقيا لن تكتمل إلا بحرية الفلسطينيين !»
* أحمد عباس, باحث في الرياضيات بالمركز القومي للبحوث العلمية في فرنسا, و سكرتير الجمعية الفرنسية للأكاديميين من أجل احترام الشرعية الدولية في فلسطين.
* حيدر عيد, أستاذ مشارك في أدب ما بعد الاستعمار والدراسات الثقافية في جامعة الأقصى-غزة, و عضو اللجنة التوجيهية للحملة الفلسطينية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل, ومستشار سياساتي في الشبكة-شبكة السياسات الفلسطينية

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115