سلالات أهل الكهف

بات الجدل الذي يطغى على الساحة حول المسلسلات الرمضانية " أمرا معتادا كلّ سنة خلال شهر رمضان،

وقد يبدو ذلك في الوهلة مفيدا بما أنّه يعكس الاختلاف والتنوع في الرؤي والمواقف بين مختلف أطياف المجتمع، كما يثري الحوار على نطاق واسع بما يساعد على بناء تصوّرات وبدائل حول الإشكاليات القائمة لكنّ الواقع عكس ذلك تماما فالذي يحصل أقرب للقصف المتبادل بالاتهامات والسباب على المنصات الإعلامية ومواقع التوصل الاجتماعي منه الى الحوار، ولا يمكن أن يكون اقتحام مسلسل "الفلوجة " لخبايا وخفايا الحياة المدرسية الدافع الرئيسي لردود الحادة ولدعوات ايقاف البث، فالكلّ على علم بما يحدث داخل أسوار المعاهد وفي العالم الخفي للتلامذة من عنف وتحرش وإدمان على المخدرات، والكلّ مجمع على أنّ المؤسسة التربوية مريضة منذ مدّة طويلة وأنّ العلاج تأخّر حتى بات مشكوكا في إمكانيّة حصوله في المنظور القريب على الأقل، إذن فأسباب ما يحصل حول هذا الموضوع أعمق من أن تتعلّق بشعارات حماية الناشئة أو الخوف على رمزية وهيبة المؤسسة المدرسية، والحقيقة التي يكشفها لنا هذا الجدل والخطاب السائد الذي ما انفك يتنامى ويتسع وتتشكل حوله قاعدة تسنده هي أنّنا نعيش حالة من الردة والتراجع عن المكاسب على قلتها، والخطير في هذا التيار أنّه يجد جذوره في موروثنا في التعامل مع حرية الفكر والأعمال الفنية والأدبية ، فذاكرة محيطنا الثقافي والحضاري مثقلة بما حصل من مآس في التاريخ البعيد ومن اضطهاد وملاحقة للمفكرين والمبدعين والعاملين بالحقل الفني، بدءا بالشيخ المصلح الطاهر الحداد الذي مات منبوذا ومعزولا بسبب كتابه امرأتنا في الشريعة والمجتمع ... ذلك الكتاب الذي مهّد " لثورة اجتماعية " في تونس بصدور مجلة الأحوال الشخصية ، مع سعي بكلّ جهد الى منع عشرات العناوين الأدبية والفكرية التي تضاهي مستوى العالمية عن الوصول إلى القارئ العربي مثل " وليمة لأعشاب البحر"للأديب السوري حيدر حيدر، التي تمّ منعها في سوريا العام 1983 وأعيد طبعها في مصر العام 2000. لكن واجه طلبة الأزهر إعادة طبعها بمظاهرات صاخبة فصودرت طبعات الرواية ومنعت في مصر أيضا.وقد تسبب صدور كتاب "نقد الخطاب الديني"للمفكر الإسلامي المصري نصر حامد أبو زيد. في تطبيق حكم "الحسبة" عليه بفصل زوجته عنه وفي هجرته إلى هولاندا بعد اتهامه بالكفر والإلحاد، ومنعت ثلاثية الروائي السعودي"أطياف الأزقة المهجورة"

" تركي الحمد" من التداول في السعودية، باعتبار أنها "تتجاوز الخطوط الحمراء سياسياً ودينياً". اما "بنات الرياض" للكاتبة السعودية "رجاء الصانع" التي. صدرت في العام 2005، فقد تعرضت صاحبتها لضغوط كثيرة، وبالرغم مما عرفته الرواية من انتشار كبير على مستوى العالم.، كما منعت وزارة الإعلام الكويتية سنة 2015رواية "فئران أمّي حصّة" للكاتب الكويتي "سعود السنعوسي" والتي حذر فيها من العقلية الطائفية والمتعصبة التي قد تأخذ بلده إلى منحى سيئ جداً، وبالرغم من أنّ الكاتب سمير زكي لجأ بروايته " رجل ضدّ اللّه "إلى بيروت سنة 2014 للهرب من الرقابة إلاّ أنّ دار النشر استحال عليها توزيعها بمصر والعديد من الأقطار العربية ، وحتى الكاتب الكبير نجيب محفوظ الحاصل على جائزة نوبل في الأدب لم يسلم من المنع، حين توقفت .صحيفة "الأهرام" سنة 59عن نشر رواية "أولاد حارتنا" بشكل متسلسل وقد منع الأزهر، 1962 الرواية من دخول مصر إلا من خلال نسخ مهربّة وكاد يدفع حياته ثمنا لها حين حاول شابان مصريان اغتياله سنة 1992، ولم يكن واقع السينما والمسرح بهذا المحيط أفضل حالا فلم يسلم المخرج الكبير " يوسف شاهين "من سهام الرقابة وحملات الانتقاد بسبب شريطيه "العصفور" و "المهاجر"
هذا الموروث السلوكي والنظري في المحيط الثقافي الذي نعيش فيه يفسر في جانب، حدوث مثل هذه الانتكاسات في مجتمعنا وعودة الأصوات الداعية إلى فرض وصاية على الضمير الجمعي ومصادرة آراء الناس وحقهم في التمييز بأنفسهم في ما يصلح أو لا يصلح لهم ، مقابل ذلك تظهر هشاشة البنى الاجتماعية في حماية ذلك الحق وسذاجة جزء من النخبة في التعامل مع الأمر كمسألة منفصلة عن الأزمة وعن التراجعات الخطيرة التي تحدث في البلاد على جميع الأصعدة، هذا التذبذب السائد في أوساط والتموقعات الغريبة هو الذي يمنح الفرصة لسلالات الغلق والتعتيم لجرّ المجتمع بأسره إلى غياهب الكهف.

 

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115