أنا والسرطان (الجزء الثاني والأخير)

نشرنا في عدد الأمس «اللوحات الخمس» من مقال الأستاذ العزيز شيحة قحة ونواصل اليوم نشر باقي اللوحات من محنته مع المرض.


• اللوحة السادسة
«متى نذهب إلى المصحّة ونجري صورة السكانار» قالت زوجتي. قلت «اليوم صباحا. لم الترقّب؟» قصدت المصحّة وكلّي ارتباك. يجب أن ننتهي من هذه المحنة، أن نرى ما في الصور من خبايا. ثمّ، لم الترّيّث وكلّ قضاء مقدّر، لا مردّ له؟ ها أنا وزوجتي أمام الطبيبة المصوّرة. كنت أرتجف. في وجهي صفرة وفي رأسي أزيز يمنع كلّ سمع، كلّ تبيّن. ماذا سوف ألقى في هذا الجسم المهزوم؟ أنا في خوف شديد. تشدّ رأسي حرارة، تمشي في كلّ مفاصلي. هل أنا في طريق الفناء؟ هل أنا أنتهي مع الحياة؟ أنا أموت عرقا، عرقا. لا ينفع الذعر الذي أحيا. يجب أن أواجه. يجب أن أذكر الله كثيرا. أن استغفره، أن أطلب عفوه ونصرته...

الطبيب المصوّر امرأة بهيّة. رقيقة، لها وجه ملائكيّ. دوما تبتسم. لكن هي طبيبة ومثلها مثل الأطبّاء لا ترى في ملامحها إشارة أو خبرا. وجهها من لوح. أحدّق في عينيها. أنظر في ملامحها مرّة ومرّة دون أن أتبيّن ما قد تحمل سرائرها من نبإ. «هل وجدت في صوري أشياء؟» الطبيبة دوما في صمت. سألتها وقد ضقت ذرعا وطال انتظاري فقالت «بعد أن أنظر مليّا في الصور سوف أخبرك ما جاء في الصور... عد اليّ بعد ساعة». ساعة أخرى طويلة، مريرة، في قاعة الانتظار، أترقّب وزوجتي الحكم النهائيّ. الساعة هي الدهر. جلست على كرسيّ ورأسي بين يديّ. عدت إلى ما مضى من الأيّام ورأيت وجه أمّي ووجه الأهل والأخلّة، الموتى منهم والأحياء. كلّ الناس ينظرون إليّ وفي أعينهم حيرة وسؤال. أنا تعبان. أنا مرهق...

جاءت الطبيبة وهي تبتسم، قائلة: «نظرت في الصور وفي الصور لم ألق شيئا يذكر. يمكنك اجراء العمليّة». فرحت بالخبر كما لم افرح منذ زمن. زوجتي هي الأخرى تحمد الله وتشكره. ارتميت في أحضان زوجتي، أقبّلها يمنة ويسرة. خرجت أجري مزهوّا، عائدا الى البيت لأخبر البنيّة. أنا فرح بهذا النبإ، بهذا البصيص من الأمل. إنّ الله لكريم بعباده، رحيم. ها هو الله يستجيب إلى دعواتي.

ها أنا وزوجتي والبنيّة في غبطة نخبر الأهل والأبناء عمّا جاء به السكانار. الآن، من الممكن إجراء العمليّة وتعويض الكيس البولي بآخر. الآن تفتح في وجهي آفاق جديدة وأراني بعد في صحّة وعافيّة. هذه صفحة سوداء تطوى وهذه أخرى ناصعة، بهيّة تفتح أمام عينيّ. في ظرف ساعة، ها هو الأمل يغمرني، ها هي الحياة تعود إليّ. ما أحلى الحياة الدنيا رغم ما في الحياة الدنيا من مرض...

ثمّ تأتي العشيّة فيعود الصداع إليّ، قويّا. من جديد، تسكنني حيرة ثقيلة، متجدّدة. يجب إجراء عمليّة جراحيّة. متى وكيف سأجري العمليّة؟ ثم هل في العمليّة من خطر؟ هل هي مضمونة العواقب؟ عدت إلى ربّي أستعطف، أطلب معاضدة. أستغفره كثيرا. أعيد ما حفظت من آيات. لم أنم ليلتها. لم يهدأ لي بال. يقول الطبيب «إن العمليّة ثقيلة ويلزمها نحو ستّ ساعات. لكنّها واضحة المسالك». ستّ ساعات في بيت العمليّة. هذا نهار كامل. هذا كثير عليّ وما كنت أجريت في ما مضى غير واحدة بسيطة بأقلّ من ساعة. عاودني الشكّ. ملكتني الريبة. هذه عمليّة ثقيلة وحتّى أعلم وأطمئنّ يجب أن أسأل من حولي عن الأطبّاء أقدرهم. أن اتبيّن تبعاتها وإن كان من الناس من أتاها ليعلمني...

سألت الناس من حولي عن العمليّة وعن أمهر المختصّين. كالعادة يمشي بك الناس في كلّ واد. كلّ يدفعك إلى حيث يعلم ويعتقد أنّ ما يعلم هو الحقّ وحده. كالعادة، لا اتفاق بين الناس حول الطبيب وحول سبل تعويض الكيس بآخر... واحد من أصحابي وكنت أثق به قال لي وفي صوته حزم وأمر «دعك من البحث والسؤال ولا تضع الوقت في ما لا ينفع. اذهب دون تردّد إلى مستشفى سهلول بسوسة واتصل بفلان فهو طبيب ممتاز قد ذاع صيته...» في الغد كنت بين يديّ الطبيب أنظر وإيّاه في العمليّة وفي ما كان لها من هوامش ومن تبعات هذا. الطبيب رجل تجاوز الستّين. في عينيه نور وفي كلامه لطف وهدوء. أنا أثق في هذا الطبيب وقلت في نفسي ولزوجتي «هذا هو صاحبنا. هذا هو سيّد الموقف».

• اللوحة السابعة
بعد بضعة أيّام قليلة سوف أجري العمليّة في مصحّة خاصّة بسوسة. أخبرت بهذا أقرب الناس... ليتني لم أفعل. لكن، كيف لي أن لا أعلم أخواتي وإخوتي وبعض المقرّبين من صحبي؟ هؤلاء هم أقرب الناس إليّ. من الضروريّ أن أعلم سليم وعمار وبوك عليّ. لا داعي إلى اخفاء الخبر وما سوف تكتبه السماء سوف تراه الأعين لا محالة... أعلمت أختي الوسطى بالنبا وأختي الوسطى هذه امرأة تحبّني. لكنّ أختي الوسطى هذه كانت وكالة أنباء. هي أقوى وأنعج من الشبكة، من التلفزة. لمّا تنطلق في نشر خبر، يغزو الخبر، في لحظة، الأرجاء جميعا. أعلمت أختي الوسطى بالخبر وها هي تنقله كالبرق عبر الجهات، في الداخل وفي الخارج. تحبّ أختي هذا الصخب وتلقى لذّة لمّا تراها تتكلّم مع هذا والآخر وذاك الذي غادرنا منذ زمن. تحبّ أختي الهرج بل أعتقد أنّها تبذل الجهد، تسعى إليه بكلّ السبل. لحظات بعد انطلاق عمليّة الاتّصال، ها هم الناس يهبّون على بيتي للزيارة. الكلّ يهاتف، يسأل عن حالي وأحوالي. في كلّ مرّة تراني أعيد على مسامع السائلين ما كان مع البول الدموي ومع الورم الخبيث ومع ما يجب اليوم من عمليّة... شاح ريقي وأنا أجيب على سؤال هذا واستسفار الآخر. أنا تعبت من هذا الكلام الذي يتكرّر، صباحا، مساءا وفي الليل. ضاقت أنفاسي وهذه الأسئلة تعاد كلّ مرّة على نفس الشاكلة وتأتي أجوبتي على نفس الوتيرة. ما هذا هو الأهمّ عندي وما كانت هذه أبدا أولويّتي. أنا اليوم في حيرة متّصلة، في خوف، أحسب الأيّام وأتخيّل ما قد سوف يحصل مع قادم الأيّام من شأن. هذا عذاب آخر ينضاف لما أنا فيه من عذاب. يجب أن أغلق هاتفي وأرتاح من السؤال ومن الجواب. أختي الوسطى تحبّني ولا شكّ في ذلك. لكنّ حبّها فيّاض، فيه انفلات جارف. هي لا تعرف الاعتدال أبدا وفي كلامها دوما مبالغة... في آخر العشيّة، تسألني أختي الوسطى من جاء لزيارتي وإن هاتفني فلان وفلان... اقول لها هذا غير مهمّ ولن تنفع الزيارات ولا الهواتف. تقول أختي وفي صوتها حدّة: « لا، لا، أنت لست بقط. أنت رجل معتبر، غال. كلّ من نعرف يجب أن يسأل عنك ويأتي إلى الزيارة»...

أمّا زوجتي وكانت في بعض شبه بأختي الوسطى فكانت تلقى شغفا بالردّ على الناس وإعادة أطوار الحكاية وما كان حصل منذ كنّا في الطائرة. كانت تعيد «الأغنيّة» بنفس الوتيرة، بنفس الكلمات. عشرون مرّة في اليوم أو أكثر وهي تحكي كيف كان البول وما كنّا اعتقدنا من سبب تافه ثم ما كان لنا مع الصور والسكانار وما كان فيهما من ورم جليّ ثم تمرّ إلى العمليّة وكيف أظهرت العمليّة خبث الورم إلى غير ذلك من التفاصيل والجزئيّات. تعرف زوجتي صناعة القصّة وتحذق فنّ التشويق وتراها في كلّ مرّة تبدع في توضيح المعطيات، في العود إلى ما فات. لا تقلق زوجتي أبدا من هذه الاتصالات بل أراها تلقى لذّة بما كانت تحكي لهذا وللآخر من حكايات. أمّا أنا فكنت في ضجر وقد صدّع رأسي لوك الكلام وهو يتكرّر اليوم طوله...
قبل العمليّة وبعدها، كانت زوجتي دوما إلى جانبي. تمدّ لي يد العون وتقول لي كلاما يشدّ العزم ويدفع بالهمم. كانت دوما إلى جانبي، ليلا، نهارا. تسرع دون تلكؤ في تلبيّة دعواتي ودعوات المريض متعدّدة، لا تنتهي... ماتت أمّي منذ زمن وبقيت زوجتي في الدنيا هي المعاضد، هي المناصر. من لي غير زوجتي في هذا العمر؟ من لي غير زوجتي في هذا الظرف العصيب؟ إذا كانت الجنّة تحت أقدام الأمّهات، تبقى الحياة تحت أقدام الزوجات.

• اللوحة الثامنة
كنت في غرفة المصحّة، أترقّب ومن حولي، اخوتي وزوجتي وكانوا في كلام لا ينتهي. كانوا في بعض صخب، لمّا فجأة جاءني ممرّضان خلعا ثيابي وألبساني أخرى. أخذني الممرّضان فوق عربة مجرورة إلى بيت العمليّة. أنظر هائما فأرى الأسقف والأضواء تجري. من حولي بشر. كنت في شبه غيبوبة. حان الجدّ وجاءت ساعة العمليّة. استغفرت الله كثيرا. دعوت ربّ العزّة أن يشدّ ازري فأوفّق وتنجح العمليّة. أدخلوني غرفة باردة لونها أخضر. في السقف عديد الأضواء. فوق رأسي انتصبت ثلاث مصابيح بلّوريّة، كبيرة. في الغرفة، عديد الأشخاص. كلّ يرتدي لونا، كلّ يتكلّم مع صحبه. ثم جاء المبنّج ودقّ في ظهري حقنة أولى وفي يدي أدخل حقنة ثانيّة. كنت أسمع وأرى ما يجري لمّا فجأة، انتقلت من عالم الأحياء الى عالم آخر. أنا جثّة. لا حسّ فيّ ولا شعور... انتهت العمليّة وحوّلوني إلى غرفة الانعاش. قضيت الليلة كلّها تحت المراقبة. أحيانا أفتح عينيّ فأرى زوجتي ووجه رفيقة ورؤوس عباد لا أعرفهم ثمّ أعود لأنام من جديد.
انتهت العمليّة وحمدت الله كثيرا أن عدت بين أهلي وذويّ، حيّا... ها أنا في غرفتي بالمصحّة وهذا وعي خفيف يدبّ فيّ، من حين لآخر. أفيق من نومي، أفتح عينيّ فأرى وأتبيّن. هذه زوجتي تبتسم، تمسح جبيني، تشدّ يميني. هذا الممرّض يأخذ الحرارة وما كان من سكّري. في أنفي خيط بلاستيكي بغيظ يمشي إلى المعدة. في جانبيّ أدخلت خمسة أنابيب تفرز بولا وموادّ أخرى. فوق السرير، أنا عاجز تماما على الحركة. قضيت في المصحّة ستّة أيّام كانت كلّها عذابا وتوّجعا. أقضي الليل والنهار مفتوح العينين. أغمض عيني فيشدّني وجع فأنهض. أترقّب الفجر وأسمع الآذان. ثم يأتي الصباح وها أنا أترقّب العشيّة وظلام الليل يغطّي...

قضيت ستّة أيّام من العجز، من الألم، من الوجع المتّصل. وبينما كنت أحسب الدقائق تتوالى ثقيلة، مريرة، تذكّرت أيّام كنت في صحّة وعافيّة. تمنّيت لو عاد ذاك الزمن البهيّ لبضع دقائق. ساعة وحيدة. ما كنت أكترث أيّامها بما كنت أنعم به من عافيّة وصحّة. هذا طبيعيّ وكذلك عشت في غفوة عقودا من الزمن. في ذاك الزمن، كنت أنام الليل طوله وفي النهار أيضا. آكل ما شئت من الأكل. أمشي في الدنيا مزهوّا. أضحك. أحيا ولا أعبأ. لو كنت أعلم لازداد حبّي بالحياة، لعضضت على الأيّام ملء فمي. كم أضعت من عمري في قضايا تافهة. كم أنهكت من جهد في الحكايات الفارغة. كم من سنوات قضيتها أجري وراء الترّهات. كم آتيت من تكالب، من تهافت لا ينفع. كان الأولى أن أحيا كلّ لحظة. كان الأولى أن أشكر الله على ما كنت فيه من نعمة... الحياة قصيرة. الحياة هي أن تنعم في كلّ لحظة، أن تحبّ وتضحك وتمرح في كلّ يوم، في كلّ لحظة... كنت قرأت مثل هذا الكلام من قبل دون أن أتبيّنه. ها أنا اليوم أعيده.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115