تشريك الأسلاك المسلّحة في الإنتخابات: أقصر طريق لتسييسها و للتّسريع ببداية النّهاية

بمناسبة مناقشة مجلس نواب الشعب مشروع تنقيح القانون الأساسي المتعلّق بالانتخابات و الإستفتاء تقدّم عدد من السادة نواب الشعب بمقترح يقضي بتمتيع أعوان الأسلاك المسلّحة من جيش و قوات أمن داخلي و ديوانة من ممارسة حقّ الإنتخاب. في الظاهر يبدو هذا الإجراء

على غاية من التقدّميّة إلاّ آنّه في حقيقة الأمر لا يأخذ في الاعتبار خصوصيّات تلك الأسلاك و واقع بلادنا بل يطرح الإشكاليّات التاليّة:

ـ يمثّل دعوة رسميّة مفتوحة للعسكريين و الأمنيّين للتّسيّس و بذلك يمثّل بداية نهاية حياد المؤسّستين. كما أنّه عامل تفرقة بين أعضاء و مكوّنات تلك المؤسّسات و إضعافها ممّا يؤدّي لتفكيكها.

ـ خلافا لما يدّعيه المدافعون عن هذا المقترح فإنّه لن يزيد شيئا في مواطنة العسكريّين و الأمنيّين و لا في مكانتهم في المجتمع إذ هم يكتسبون مواطنتهم كلّ يوم بالعرق و الدّم و لا أحد يشكّك فيها.

ـ علاوة على الإشكاليّات التي تعوق تطبيق ذلك الإجراء و بذلك هو مرشّح في حالة اعتماده لأن يكون من المؤكّد من أكثر القوانين تقدّميّة (!) في العالم إلاّ آنّه سيبقى حبرا على ورق .
تناقض مقتضيات الحياد التامّ و ممارسة عمليّة الإنتخاب

يقضي دستور جانفي 2014 في فصليه 18 و 19 بأن تؤدّي كلّ من المؤسّستين العسكريّة و الأمنيّة « مهامها في حياد تامّ ». إلاّ آنّ ممارسة عمليّة الإنتخاب يفترض من الناخب العسكري و الأمني في هذه الحالة آن يولي اهتماما بالشأن السياسي من أحزاب و مترشّحين و برامج و خيارات سياسيّة حتّى تتبلور لديه مواقف و قناعات شخصيّة يصوّت للجهات السياسيّة التي تدافع عنها. و من الطبيعي آن يتطوّر ذلك إلى درجة عاليّة من التسيّس و الإنتماء و حتّى الولاء و لو كان غير معلن. و هذا طبعا يتناقض تماما مع مقتضيات الحياد المطلوب و الذي لا يقف عند حدّ عدم الإنتماء للأحزاب بل يقتضي من العسكريّين و مؤسّستهم المحافظة على صبغتهم الّلاسياسيّة و هو ما يعني البقاء بعيدا كلّ البعد عن الشأن السياسي. و ليس من الصعب تصوّر ما يمكن آن يحصل داخل الوحدات من انقسامات و غياب الانضباط .

علينا تصوّر ما كان يحدث بتونس إثر أحداث 2010/ 2011 لو لم يكن الجيش الوطني بعيدا كلّ البعد عن كلّ ما له علاقة من قريب أو بعيد بالسياسة. إذن لا مبالغة إن اعتبرنا تمكين العسكريّين من ممارسة عمليّة الإنتخابات تتناقض تماما مع روح الدستور إن لم نقرّ آصلا بلا دستوريّة هذا الإجراء. من جهة أخرى القول بأنّ دراية العسكريّين بالشأن السياسي لا يمنعهم من الإلتزام التام بالحياد هو مجرّد موقف نظري إذ الكلّ يعلم آنّ الانغماس قي الشأن السياسي يوفّر فرص اكتشاف المعني في نفسه قدرات و مواهب في المجال و يحرّك فيه رغبة خوض المغامرة السياسيّة بشكل ما. و الكلّ يعلم نتائج احتكاك العسكريين بالسياسة سواء على مستوى الإنقضاض على السلطة آو على مستوى تفكّك الوحدات العسكريّة و تشتّتها حسب الولاءات السياسيّة و انعكاس ذلك على نجاعتها في آداء مهامها الدستوريّة.

عمليّا، استحالة تطبيق هذا الإجراء
الكلّ يعلم مدى انشغال الأسلاك المعنيّة بهذا الإجراء في الحرب على الإرهاب و في العديد من المهام الأخرى منها إسناد الإنتخابات ذاتها و تأمينها. فمن يتولّى تلك المهام يوم ممارسة العسكريّين والأمنيّين عمليّة الإنتخاب ؟ و لا يفيد شيئا تخصيص يوم آخر مغاير لموعد الإنتخابات العامّة. هل من المعقول مغادرة الآلاف من القيادات الضباط وضباط الصف والجنود مواقعهم على الحدود و في الصحراء و في البحر في نفس اليوم للإلتحاق بمراكز الإقتراع! لعلّه غاب عن البعض أنّه لا معنى بالنسبة لتلك الأسلاك يوم أحد و يوم عطلة وأوقات عمل وغيره من المفاهيم المعهودة. إن قدّر لهذا الإجراء أن يعتمد فسيبقى حتما من قوانين الإنتخابات الأكثر تقدّميّة في العالم لكن في الواقع لن يرى النور للتطبيق وسيبقى حبرا على ورق.

المواطنة و حقّ ممارسة الإنتخاب
يبرّر المدافعون عن هذا المقترح موقفهم ذلك بحرصهم على تمكين العسكريّين من ذلك الحقّ بصفتهم مواطنين حتّى تكتمل حقوقهم و كأنّ مواطنتهم تلك هي موطن شكّ أو ناقصة و ذلك دون مراعاة خصوصيّاتهم. بطبيعة الحال يبقى العسكريّون مواطنون كاملي الحقوق إلّا آنّ صفتهم العسكريّة و مهامّهم تجعلهم مواطنين ذوي خصوصيّات عديدة هامّة تفرضها طبيعة مهامّهم، فهم بالقانون يستخدمون الأسلحة التي تمنع بنفس القانون على بقيّة المواطنين و يخضعون لقوانين أساسيّة خاصّة وللعديد من القيود على حرّيات يتمتّع بها مواطنيهم كالإبتعاد عن السياسة بكلّ أوجهها وعن العمل الجمعيّاتي وعدم التنقّل إلّا برخصة حتّى داخل البلاد و غيره. إلّا أنّ ذلك لا يجعل منهم مواطنين من درجة دنيا بل بالعكس هم مواطنون من درجة خاصة ساميّة و في الحقيقة من درجة أولى و كذلك يتعيّن اعتبارهم من طرف المجتمع. أ لا يشكّل الجيش الوطني آخر حصن يحمي الجميع و عليه البقاء على مسافة من الجميع؟ ليطمئنّ السادة النّواب لا تشوب مواطنة العسكريّين أيّة نقائص تستوجب التدارك إذ هم يكتسبون مواطنتهم كلّ يوم بالعرق و الدّم و لا أعتقد أنّ مجلسكم الموقّر تلقّى أيّة تظلّمات من عسكريّين يطالبون بحقّ الإنتخاب لاستكمال مواطنتهم.
فاتقوا الله في هذه الأسلاك المسلّحة ذات الحساسيّة العاليّة .

محمد المدب
جنرال متقاعد

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115