قهوة الأحد: في أسباب عودة مفهوم «السيادة الوطنية» في الحوار الاستراتيجي

كانت التحولات الكبرى التي يشهدها العالم وراء مخاضات فكرية وإستراتيجية وذلك لضبط السياسات العمومية الضرورية والاختيارات الكبرى لإعادة

بناء استقرار العالم وأمنه. وقد تناولت هذه النقاشات والمخاض الفكري جميع مجالات الحياة الاجتماعية من السياسة إلى الاقتصاد إلى الثقافة والإبداع وامتدت هذه النقاشات إلى مجالات التنمية ومستقبل بلدان الجنوب في ظل تنامي الأزمات الاقتصادية وواقع عدم الاستقرار والغموض والتذبذب الذي اصبح يسود عالم ما بعد العولمة.

ولعلّ ما يميز النقاشات في مجال التنمية ارتباطها الوثيق بالجدل والنقاش في المجال الاقتصادي، فلئن عرفت الصراعات والنقاشات في مجال التنمية في بعض الفترات التاريخية هامشا من الحرية في المجال الاقتصادي العام إلا أن مجالي التنمية والاقتصاد يشهدان ارتباطا وثيقا وعلاقة كبيرة.
وتدور أغلب النقاشات والتفكير الاستراتيجي في مجالي التنمية والاقتصاد حول مفهوم السيادة والمحتوى الجديد الذي يمكن إعطاؤه له بعد أربعة عقود من العولمة، للتذكير .فقد كان مفهوم السيادة الوطنية أساس التفكير والديناميكية الاقتصادية في العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية إلى بداية الثمانينات. إلا أن أزمة مشروع دولة الرفاه كان وراء ظهور العولمة وتطورها السريع لتصبح الإطار الجامع للسياسات العمومية. وشهد مفهوم السيادة الوطنية تراجعا كبيرا ليصبح في أغلب التحاليل والقراءات الإستراتيجية أحد أسباب الأزمات الاقتصادية ومصطلحا لعالم رحل ولن يعود.
وكانت الأزمات الاقتصادية الكبرى التي تعيشها العولمة وتصاعد المنافسة والحروب التجارية بين أكبر أقطاب الاقتصاد العالمي وراء عودة مفهوم السياسة الوطنية في النقاش الاستراتيجي لدى عديد الاقتصاديين وبعض المؤسسات الدولية مثل الاتحاد الأوروبي وتطرح عودة هذا المفهوم إشكالية كبيرة من الناحية الفكرية كذلك في مجال السياسات العامة، فالسؤال الأساسي والاستراتيجي في هذا المجال هو كيف يمكن لنا العودة إلى حدود الدولة الوطنية في ظلّ التنامي الكبير للعولمة ؟ وكيف يمكن إعادة بناء السيادة الاقتصادية الوطنية في عالم عرف تطور كبيرا لحركة الرساميل والشركات العابرة للقارات والتجارة الدولية ؟.

تشتغل اليوم أهم مراكز التفكير الاستراتيجي في محاولة إيجاد أجوبة لهاته التساؤلات وإيجاد الحلول لهذه المعادلة بين الانغلاق لذي يحمله ضمنيا مفهوم السيادة والانفتاح الذي كرسته العولمة خلال الأربعة عقود الأخيرة، وتحاول اغلب اتجاهات الفكر في تحديد مفهوم السيادة دون العودة إلى الماضي ودون كبح النشاط الاقتصادي في الحدود الجغرافية للدولة الوطنية.

ولئن طرحت هذه التساؤلات في المجال الاقتصادي العام مع محاولة أهم المؤسسات الإستراتيجية استنباط بعد الأجوبة .إلا أنها شملت كذلك مجال التنمية ومستقبل بلدان الجنوب في ظل التحديات والضبابية اللتان شهدهما عالم ما بعد العولمة.وقد ساهمت في هذا النقاش العالمي من خلال اقتراح مفهوم السياسات «السياسات المفتوحة» والتي يجب أن تشكل الأفق الاستراتيجي الجديد للتنمية لبلدان الجنوب في عالم الغد وسنحاول في هذه المساهمة تقديم رؤيتنا وتصورنا لهذا المفهوم والإطار العام الذي يجب أن تتحدد فيه السياسات العمومية واستراتيجيات التنمية في المستقبل.
قبل تقديم هذا المفهوم سنتوقف عند التطوّر التاريخي الذي شهده الفكر الاقتصادي في السنوات الأخيرة وعودة مفهوم «السيادة» الى صدارة النقاش مقابل تراجع مفهوم العولمة والإنتاج.

• في جذور عودة مفهوم «السيادة»
في النقاش الاستراتيجي:
عاد مفهوم «السيادة» بصفة تدريجية لا فقط في التفكير الاقتصادي بل كذلك في السياسات العمومية وكانت السياسات القطاعية وبصفة خاصة السياسات الصناعية بوابة العودة لهذا المفهوم في السنوات الأخيرة.
وقد عرف النقاش العام في مجال السياسات الصناعية قطيعة كبيرة مع التوافق السائد منذ بداية الثمانينات لتخرج هذه السياسات من واقع التهميش الذي كانت تعيشه وتصبح إحدى الأولويات الإستراتيجية في ضبط السياسات العمومية في عديد بلدان العالم وساهمت خاصة في العودة التدريجية لمفهوم «السيادة الوطنية» في المجال الاقتصادي .

فبعد أربعة عقود من التهميش منذ بداية الثمانينات سيعود للسياسة الصناعية بريقها وإشعاعها وقد ساهمت ثلاثة أسباب رئيسية في عودة السياسة الصناعية للصدارة لعل أولها تراجع التفكير النيوليبرالي السائد منذ بداية الثمانينات والذي ترك للسوق وليدة الخفية مهمة تحديد الاختيارات والاختصاص في المجال الصناعي .

أما السبب الثاني لرجوع الاهتمام للصناعة ومن ورائها محاولات إعادة بناء «السيادة « فيهم تزايد المنافسة والحروب التجارية التي بدأت تدق رحاها بين أقطاب الاقتصاد العالمي وبصفة خاصة الولايات المتحدة الأمريكية والصين وأوروبا .وكان للرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب شعار «أمريكا أولا» (America First) والذي كان نقطة انطلاق هذه الحروب مما دفع عديد البلدان إلى محاولة التقليص من التبعية للتجارة العالمية في بعض المواد الأساسية والعمل على دعم قدراتها الذاتية في كثير من المجالات .

أما السبب الثالث الذي يفسر الاهتمام المتزايد بالصناعة ومن ورائها عودة مفهوم السيادة فيخص التحولات الكبرى التي يشهدها الميدان الصناعي وبصفة خاصة الثورة التكنولوجية التي عرفها العالم في السنوات الأخيرة .وقد وضعت اغلب الدول المتقدمة وبعض الدول النامية سياسات جريئة من اجل السيطرة على القطاعات الجديدة التي ستكون في قلب المنافسة العالمية والصراع من اجل الهيمنة على الاقتصاد العالمي .
وتمكننا في هذا المجال الإشارة إلى تجربتين مهمتين تبرهنان على هذا التحول في المجال الصناعي والعودة التدريجية لمفهوم «السيادة وتهم «التجربة ألمانيا التي انطلقت في سياسة جديدة في 2019 أطلقت عليها تسمية»إستراتيجية صناعية وطنية في أفق 2030» ويشكل هذا التوجه تغييرا جذريا في اختيارات

اغلب الحكومات الألمانية والتي راهنت على اقتصاد السوق في جميع أوجه الحياة الاقتصادية .

إلا أن فشل هذه الاختيارات وبصفة خاصة سيطرة الشركات الصينية على أهم المؤسسات الألمانية في القطاعات الصناعية الجديدة أو صناعة 40 في 2019 دفع الحكومة الألمانية الى تغيير في مواقفها وضبط سياسة صناعية جديدة عملت على حماية مؤسساتها وشركاتها الوطنية أمام المنافسة العالمية .
كما أخذت الصين نفس المنحى واعتمدت على سياسة «صناعية جديدة منذ 2015 وقعت تسميتها «Mic25» أو «Made in china» وقد وضعت هذه الإستراتيجية هدفا واضحا للصناعة الصينية وهو تقليص الواردات وتعويضها بالمنتوج الوطني في القطاعات الصناعية الجديدة وقد حددت هذه الإستراتيجية أهداف دقيقة في اغلب القطاعات الصناعية التي يجب على الشركات الصناعية الوصول إليها .

وقد دفعت التحولات الاقتصادية والثورة التكنولوجية والحروب التجارية عديد البلدان إلى الخروج من التوجهات الليبرالية التي هيمنت على السياسات العمومية في العقود الأخيرة و ضبط سياسات صناعية جديدة هدفها دفع ودعم القدرة التنافسية للدول في الميدان الصناعي والى إعادة بناء سيادتها الوطنية .وقد ركزت هذه السياسات على أهداف وآليات متشابهة كالتركيز على القطاعات الصناعية الجديدة أو «الصناعة 4.0» والدور الجديد للدولة في مجالات مختلفة كالتمويل والبحث والحماية أمام المنافسة الأجنبية .
كما ساهمت التحولات الكبيرة التي عرفها الاقتصاد العالمي في مراجعة القناعات التي هيمنت على السياسات العمومية منذ بداية الثمانينات وصعود العولمة .وكانت هذه القراءات وراء العودة التدريجية لبعض المفاهيم القديمة التي خلنا انها غابت وانتفى دورها .ومن ضمن هذه المفاهيم نشير إلى مفهوم «السيادة الوطنية « الذي سيعود إلى الناقش العام والسياسات العمومية من نافذة السياسات الصناعية .
ولئن كانت عودة مفهوم «السيادة الوطنية» تدريجية بين سنوات 2015 و2019 الا انها اصبحت عارمة مع تزايد أزمة العولمة وخاصة مع جائحة الكوفيد ودخول العالم في مرحلة ما بعد العولمة .

• أزمة العولمة، الجائحة وعودة «السيادة الوطنية»
عرفت العولمة عديد الأزمات منذ الأزمة المالية لسنوات 2008 و2009 والتي كادت أن تعصف بأسس الاقتصاد العالمي إلا أن جائحة الكوفيد 19 ستكون الأزمة الأخطر في تاريخ العولمة وستدفع العديد من المفكرين والسياسيين ومناضلي الحركات الاجتماعية الى فتح باب المراجعات والقراءات النقدية لتجربة العولمة لفهم أسباب الوهن والعجز .

فقد كانت للأزمة الصحية انعكاسات كبيرة على عديد المستويات في التجربة الإنسانية الجمعية ومن ضمنها مشروع العولمة .هذه الأزمة ليست الأولى في المسار التاريخي للعولمة ولكنها كانت بحجمها وانعكاساتها الأكثر تأثيرا في مستقبل هذه المشروع لتفتح عالم ما بعد العولمة .وستكون هذه الأزمة الصحية وراء النقد الموجه لمشروع العولمة ولظهور تحولات وتغييرات جذرية في المجال الاستراتيجي .

وتهم المسالة الأولى التنظيم العالمي للإنتاج وهشاشة سلاسل الإنتاج العالمي التي هيمنت على أغلب القطاعات الصناعية منذ منتصف ثمانينات القرن الماضي .فقد ساهمت فترات الحجر الصحي المتعددة والطويلة في كسر سلاسل الإنتاج وإيقاف الإمدادات بينها مما خلق صعوبات كبيرة في عديد القطاعات .وقد دفعت هذه الصعوبات ومشاكل التزويد عديد المؤسسات الكبرى إلى الخروج من هذا التوزيع العالمي ومحاولة بناء سلاسل إنتاج إقليمية تكون أكثر صمودا أمام التحولات والتغييرات الجذرية التي يشهدها عالم ما بعد العولمة .

أما المسالة التي فتحت باب العودة لمفهوم السيادة الوطنية في ظل الجائحة الصحية فتهم الرجوع الى الدولة بعد أربعة عقود من التهميش تحت ظلال العولمة .فأمام الخطر الداهم والاجتياح الكبير للفيروس كانت الدولة بمؤسساتها الصحية والأمنية والمالية والاقتصاد الجدار المنيع أمام هذه الأزمة الصحية .وستشهد هذه الأزمة عودة الدولة لحماية المجتمعات والاقتصاد أمام المخاطر الكبرى التي تهدد امن واستقرار العالم .بعد عقود من النقد والرفض ستفتح الجائحة الصحية باب عودة الدولة للنقاش الاستراتيجي حول الاقتصاد والتنمية .

إن أزمة سلاسل الإنتاج والعولمة وعودة الدولة لحماية المجتمعات أمام الجائحة ستفتح الباب إلى تحول استراتيجي وقطيعة ابستمولوجية والى عودة مفهوم «السيادة الوطنية «والحدود» بعد عقود من التهميش والرفض .فقد انبنت العولمة على مبدإ تراجع السيادة الوطنية والاقتصادية وفتح الحدود لصالح المؤسسات والمنظمات الدولية وحركة الشركات الكبرى والاستثمار العالمي. وقد كانت أدت هذه الأزمات المتتالية للعولمة وراء هذا التمشي والعودة لمبدإ السيادة الوطنية في عديد المجالات ومن ضمنها الصناعات الإستراتيجية مثل صناعة الدواء فقد اكتشف العالم وخاصة البلدان المتقدمة تبعيتهما للبلدان الصاعدة وخاصة الصين والهند في عديد القطاعات الاقتصادية الإستراتيجية .

وقد دعمت هذه التبعية الفائقة الأصوات المنادية بضرورة القطع مع فكرة الانفتاح والعودة إلى مبدآ السيادة الوطنية وضرورة إعادة بناء القطاعات والصناعة الإستراتيجية التي تم تناسيها وتهميشها في العقود الأخيرة .
وكان تعدد أزمات العولمة والتحولات الكبرى التي يعيشها الاقتصاد العالمي والمخاطر وراء عودة تدريجية لمفهوم السيادة الوطنية» .إلا أن جائحة الكوفيد 19 أو تنامي المخاطر التي أصبحت تهدد الإنسانية كانت وراء التطور الكبير لمفهوم «السيادة الوطنية» في الدوائر الإستراتيجية ليصبح تدريجيا الإطار العام الذي قع فيه تحديد السياسات في ميادين متعددة من الأمن إلى السيادة إلى الاقتصاد والغذاء والطاقة .

ويبقى السؤال المطروح ما مدى قدرة الدول على إيجاد التكامل والتلاقي بين مبدإ «السيادة الوطنية» والمستوى الكبير الذي وصلت إليه العلاقات المالية والاقتصادية الدولية؟ .وسنحاول التعرض إلى بعض التجارب التي قدمتها المؤسسات الأوروبية حول هذه التساؤلات الإستراتيجية .
ستمكننا دراسة هذا المسار التاريخي وبعض التجارب المقارنة من تقديم مفهومنا «للسيادات المفتوحة» والذي نقترحه أفقا استراتيجيا جديدا للتنمية .

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115