برج بابل: كرة القدم، الملعب الذي يصنع مشاعرنا

في جامعة « كامبردج » الإنجليزية وفي سنة 1863 وقع ضبط أهمّ قواعد لعبة ستصبح بعد ذلك اللعبة الأهم كونيّا. وكان طلبة الجامعات آنذاك يتنافسون من أجل القوّة والتنشئة

على قيم جديدة، هي قيم الانضباط والجديّة والقدرة على تحمّل المسؤولية وترويض جسد صاعد هو جسد الحداثة. هي نفسها قيم مجتمع صناعي صاعد تقوده برجوازية متعلمة تريد إرساء زمنية جديدة أحد عناصرها ثقافة ترفيهية بمشاعر يصنعها الفرد في علاقة مع ذاته ومع الآخرين. أعرق الجامعات الأنجليزية كانت حريصة على تبنّي اللعبة ولم تحدث القطيعة بين الدراسة وممارسة اللعبة إلاّ عندما حُولت وجهة اللعبة نحو الجماهير الواسعة مع أواخر القرن التاسع عشرلتتبناها البروليتاريا الصناعية وتجعلها مناسبة للترفيه بعد أسبوع شاق من العمل. ثم خرجت اللعبة من حيّزها الأنڤليزي لتتجه إلى مستعمرات بريطانيا في العالم عبر الجنود والتجار والطلبة والمهندسين والديبلوماسيين والتجّار و عبر الموانئ أيضا. هي أيضا غنيمة استعمارية بلا منازع. ولكن لا يجب أن يغيب عنا أن نشأة اللعبة تزامنت مع صعود آخر للدولة – الأمّة في أوروبا التي ستحتضن اللعبة وتعيرها الجدية اللازمة.
نشأت اللعبة بقواعد ضابطة وبتعليمات صارمة ولكنها في نفس الوقت سهلة الممارسة، وكانت إعلانا عن ظهور أهم القواعد الديموقراطية وهي قاعدة الجدارة عند التنافس. نشأت لتُعلن أن الوجود البشري يحتاج إلى تظافر الجهود الفردية والجماعية لتحقيق شيء ما. نشأت أيضا لتدلنا على علاقة واضحة ودقيقة بالزمان وبالمكان، وبرزت لتعلمنا كيف نقسط جهودنا من أجل بلوغ أهدافنا وكيف نكون عقلانيين قدر الإمكان في لعبة فيها الكثير من اللايقين. علمتنا كيف نسيطر على هذا اللايقين وكيف نطوعه جماعة وأفرادا. وعلمت اللعبة البشرية التي تمارسها والتي تشاهدها أن التنافس لا يتمّ إلا في ظل قواعد واضحة يلتزم بها الجميع ويقع تطبيقها بالتساوي بينهم. هي مظهر من مظاهر العدالة والمساواة أو على الأقل هذا ما تبشر به.

الواقع الذي تُجرى فيه هذه اللعبة مسألة أخرى، هنا يتدخل البشر ليفعلوا فعلهم في اللعبة، هل يلتزمون قدر الإمكان بقيم اللعبة أو يتركون قيمها جانبا. ولهذا لا تُمارس اللعبة بنفس الشكل وبنفس الطريقة وفق اختلاف الثقافات والمجتمعات والسياقات، ولهذا لا توجد كرة قدم واحدة. لا يلعب الإيطاليون بنفس أسلوب البرازيليين مثلا ولا الألمان يشبهون في لعبهم الأمم الأخرى المجاورة. فاللعبة هي ممارسة ثقافية، هي تاريخ من يمارسها هي خلاصة تحولات شهدها بلد ما أيضا. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا لماذا يلعب المنتخب التونسي على مدار المنافسات الكبرى، كأس إفريقيا للأمم وكأس العالم، بأسلوب يصفه الفنيون في كرة القدم بأنه أسلوب دفاعي يقوم على إغلاق كل المنافذ مع الحذر الكبير في الصعود إلى الهجوم واستثمار أي خطإ للمنافس للتسجيل إلى الحدّ الذي اعتبر فيه لاعب دولي شهير أن كرة القدم التونسية هي كرة الحظ؟ أعتقد أن الإجابة الأولى على هذا السؤال هي أننا نلعب بأسلوب يختزل تاريخ تونس وموقعها داخل الفضاء الجيوسياسي. بلد صغير في الحجم الجغرافي و في الموارد مُحاط بدول إقليمية كبيرة و عاش تاريخا مليئا بتدخلات أجنبية منذ تدمير روما لقرطاج ومقاومة دفاعية دامت سنوات إلى الوندال ثم العرب المسلمين والإسبان و العثمانيين إلى حين تدخل الاستعمار الفرنسي في أواخر القرن 19. الشعور الجمعي الذي يتشكل عبر التاريخ هو أن البلد مُعرّض في كل مرّة إلى هجوم ساحق من قوى كبرى، وهذا الشعور الجمعي يسهل إلى حدّ بعيد تطوير الطرق الدفاعية وإتقانها مع الكبار وتبنيها كثقافة و كأسلوب لعب ، و لهذا ينجح المنتخب عادة مع المنتخبات القوية وبقدرة تكتيكية عالية. الثقافة الدفاعية كأسلوب لعب نجدها في التاريخ السياسي لٍإيطاليا كبلد تعرض خلال تاريخه لكل أنواع الاعتداءات من جيرانه و كانت الحلقة الأضعف. سويسرا أيضا اعتمدت أسلوبا دفاعيا شبيها بالأسلوب الإيطالي، فموقع سويسرا ضمن الخارطة الجيوسياسية الأوروبية كبلد محايد ومحاصر بدول الاتحاد الأوروبي يعزز هذا النزوع نحو أسلوب اللعب الدفاعي.

ولكن توجد استثناءات في هذا السياق، لقد كان المنتخب التونسي خلال تصفيات مونديال الأرجنتين سنة 78 و المباريات التي لعبها في المونديال بعيدا عن أسلوب دفاعي حذر مثلما هو حاصل في العشريات الأخيرة. قد يكون هذا الاستثناء هو استثناء حنبعل الذي كان قائدا عسكريا هجوميا إلى أبعد الحدود. قد نحتاج لثقافة حنبعل الهجومية لتأكيد حضورنا في المباريات المونديالية بأسلوب مغاير لما نقدمه الآن.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115