موجة من الاحتجاجات في الشارع الإيراني تستمر للأسبوع الثامن دون انقطاع .
ولئن كان حراك الشارع عنصرا مهما في المعادلات السياسية السليمة للضغط على المؤسسات التمثيلية والهيئات الوسيطة وتدارك اخلالاتها ، فإننا نعتبر ان الاحتجاجات الأخيرة ليست مجرد موجة عابرة يمكن احتواؤها بسرعة بل هي محطة تضع النظام في مفترق طرق بين خيارات صعبة يفضي بعضها الى تجديد روح الثورة ورسالتها ،فيما يقود بعضها الاخر الى اعلان نهاية الثورة وإجراء تغيير عميق في بنية النظام من خلال إعادة توزيع العلاقة بين مكوناته الأساسية .
لمحة تاريخية
منذ الانقلاب الأمريكي البريطاني على حكومة محمد مصدق سنة 1953 بسبب سياستها الوطنية الرامية الى تأميم الثروات من اجل نهضة خيار تنموي مستقل ، حكمت عائلة بهلوي البلاد بالحديد والنار وجرتها الى مواقع التبعية الاقتصادية والثقافية و السياسية و حولتها الى نقطة ارتكاز أساسية في الاستراتيجية الامريكية لمحاصرة الاتحاد السوفياتي وتطبيع وضع الكيان الصهيوني في المنطقة، واحتواء التطلعات العربية للنهوض.
لكن المقاومة لم تتوقف ، وترافق النضال الميداني مع التحريض السياسي و الإبداع الفكري ،و ساهمت في ذلك تنظيمات سياسية و مفكرون و قادة رأي. وقد لعبت المؤسسة الدينية التي انحاز قادتها منذ وقت مبكر للثورة أدوارا متقدمة لاعتبارات متعلقة بالسياقات الإيرانية الخاصة .
و قد توجت هذه المقاومة بانتفاضة شعبية عارمة استمرت اشهرا فرضت في الأخير على القوى الصلبة الانفضاض من حول نظام الشاه و الانحياز للشارع، فذكرت بالثورات الشعبية الكبرى في القرن العشرين .
وعود الثورة
تتشابه الامال و الأحلام التي تفجرها الثورات لانها تجد جذورها فيما هو مشترك انساني .
فهي طلب للحرية والكرامة والمشاركة في السلطة و الثروة للافراد، وهي طموح للمشاركة في تحديد المصير وتحرير الإرادة العامة وترسيخ الاستقلال الوطني .
وكانت هذه هي وعود الثورة الإيرانية التي اطلقت موجة من التعاطف و الإعجاب في المنطقة لانها اعادت بوصلة ايران و أدمجتها في محيطها الإسلامي وجعلتها في مقدمة القوى المناهضة للهيمنة الامريكية و المقاومة للكيان الصهيوني .
كما كانت الثورة حركة تحرير ثقافي للإرادة الشعبية من حالة الجمود التاريخي التي رهنتها فيها القراءة السائدة للمذهب العقدي السائد في ايران في فترة انتظار ظهور الامام المهدي .
بداية الانحرافات: إيران شعب أم طائفة؟
لئن حظيت الثورة بموجة ترحيب واسعة في الأوساط التحررية في العالم و خاصة لدى فئات من شباب المنطقة التي تبحث عن معادلة تتصالح فيها إسلاميتها مع ثوريتها فانها كانت أيضا هدفا للمحاصرة خشية مفعول العدوى.
لكن هذا لا يجب ان يحجب انحرافات المنطلق التي سيكون لها تأثيرها البالغ على مجمل المسار.
لقد كانت الثورة تتويجا لجهد روافد متنوعة ،شعبية ونخبوية ،تعود جذورها الى جهود الإصلاح في بدايات القرن العشرين و الى مشروع الدكتور مصدق و الى انتفاضة 1963، و لكن -كما هي العادة في مثل هذه الحالات -كان الدور الأبرز في التتويج للقوة الأكثر تنظيما ،وهي في الحالة الإيرانية المؤسسة الدينية المنغرسة في مجمل النسيج الاجتماعي .
وفرضت كاريزما الخميني وجرأته في الاجتهاد، وانتشار تنظيم المؤسسة الدينية وقوتها ، و استمرار الزخم الشعبي ودور البازار ،فرضت نسق الثورة وجدول أعمالها.
ومثل احتكار سردية الثورة وانكارمساهمة مختلف الروافد و التفصي من التوافقات التي حصلت قبل انتصارالثورة وخاصة مع مهدي بازركان و أبي الحسن بني صدر اهم رموز التيار الوطني الديموقراطي الاجتماعي بداية الانحراف .
لقد كان من شان بناء الحالة ما بعد الثورية بقراءة إدماجية تستفيد من مواطن تركيز الرافد الليبرالي الوطني والاجتماعي الإسلامي الاشتراكي،والإصلاحي داخل المؤسسة الدينية إعطاء مضمون شامل للثورة يترجم التطلعات العميقة للثوار،فيستفيد من جرأة الخميني في رج الضمير الديني وتثوير المؤسسة الدينية ،كما يستفيد من تنظيرات شريعتي في ابراز الابعاد الاجتماعية للدين و العودة الى التشيع العلوي السياسي الثوري بديلا عن التشيع الصفوي القومي و الطائفي ،و من مساهمات بني صدر في الاقتصاد السياسي و تفكيك ميكانيزمات فرض التبعية عبر الثروة النفطية ،ومن الاجتهادات اليسارية سواء الكلاسيكية (حزب تودة) اومحاولة مجاهدي خلق ابداع قراءة ماركسية تستفيد من الخصوصيات الثقافية.
إن احتكارتيار متنفذ داخل المؤسسة الدينية للمسارحشره في زاوية معالجة المعضلات التاريخية «للطائفة المظلومة «و للمؤسسة التي تبحث عن دور، مع استبعاد اجتهادات مهمة داخل المؤسسة الدينية ذاتها (آية الله طالقاني و اية الله مطهري وغيرهما )،فاصبح المعطى المذهبي الشيعي الاثني عشري هو المحدد في مقاربة الهوية على حساب المحددات السياسية و الاجتماعية و غيرها ، وهو ما تجلى في نص الدستور ومرجعياته و النظام السياسي الذي سيج مجال ممارسة الإرادة الشعبية وشروطها تحت سقف وصاية المؤسسة الدينية ،وضمن الانضباط لفهم معين للمرجعية الدينية .
لقد كانت نظرية الخميني حول «ولاية الفقيه» طرحا جريئا حرر الفاعلية السياسية من سجن انتظار ظهور المهدي تحرر المؤسسة الدينية، ولكنها لا تعالج المشكلات العميقة لبناء حالة سياسية منسجمة مع تطلعات الناس ومع مزاج العصر .انها لا يمكن ان تمثل الا حلا مؤقتا في احسن الأحوال .
لا يمكن انكار قدر من الحيوية في النظام السياسي الإيراني، ولا نفي وجود صراعات وتأويلات ومقاربات متنوعة ،و لكنها كلها مسيجة ضمن مربعات محددة تخنق مجالات الترشح والاختيار .
غير أن استمرار الارتهان لسجني المظلومية و التاريخ لم يكن فقط نتاج الديناميكيات الذاتية للنسق الإيراني بل غذته أيضا ،ومنذ البداية ،الضغوط والتهديدات الخارجية التي أعطت مبررات للانكماش و لتعاظم دور المؤسسة الدينية حتى لكان البلد تحول الى حوزة واسعة، ولهيمنة الحرس الثوري والباسيدج .
لقد وفرت الثورة فرصة لإيران لبناء مشروع قومي في بلاد تمتلك الكثير من مقومات العظمة :الجغرافيا و الديموغرافيا و الموارد و الموقع و التاريخ والنخوة .ولكن هذه المقومات غير كافية دون إرادة جماعية تبني جبهة داخلية صلبة ،وتتحررمن معارك التاريخ ومن الإحساس بالاختناق ،وتحين رسالة الثورة بعد خمس وأربعين سنة من اندلاعها .
ان مشكلة الثورات، سواء أكانت ضد الاستعمار أو ضد الاستبداد، هي نفسها تنطلق من بناء تقديم سردية انتقائية ،ثم تستنزفها وتبتذلها ،لتنتهي الى تعويض حرارة الأفكارالمؤسسة للبدايات بقوة الأجهزة ،و الأجهزة تتحول من خدمة الفكرة الى التستر بها واعتمادها غطاء لمراكمة المصالح و لممارسة النفوذ الموازي ،وذلك اخطر مظاهر الفساد . ولشبكات المصالح والمنافع .
وكثيرة هي القصص الحزينة للثورات المغدورة .ونكتفي بمثالين يشبهان الثورة الإيرانية .
ففي الخامس من أكتوبر 1988خرجت الأجيال الجديدة في الجزائر لتعلن تمردها و لتصرخ ان سردية معركة التحرر من الاستعمار قد استنفدت زخمها الأول ولا يمكنها ان تفتح افاقا جديدة .
كما أن اندلاع الثورة الإيرانية تزامن مع اندلاع الثورة في نيكارغوا في الخاصرة الامريكية ضد حكم سوموزا.الان ،بعد أربعة عقود ،يتحول دانيال أورتيغا رمز الثورة الأولى الى دكتاتور فاسد يقود نظاما عائليا لا يختلف كثيرا عن نظام سوموزا .
الشعوب لا تظلم
للشعوب مخزون من الصبر تصرفها عبر الزمن ،ومن الطاقة تساعدها على تحمل أهوال الانحرافات و الانتهاكات ،ومن الذكاء لتنبه وتحذر قبل لحظة التمرد .تلك اللحظة التي تقول فيها :كفي ،لا يمكن لهذه الحالة ان تستمر.لم تفهموا وقد أضعتم كل الفرص التي أعطيت لكم.
اكثر من نصف سكان ايران اليوم هم دون سن الثلاثين ،ولا يعرفون الشاه و لا جهاز مخابراته ،ولا تعنيهم كثيرا كل السردية القائمة على الاستثمار في الماضي ما قبل 1979، وهم يعيشون عصرالاعلام المفتوح و يقارنون ،و تصنعهم التكنولوجيات الحديثة مثلما تصنع غيرهم عبر العالم ،و لذلك لم يسأموا من توجيه التحذيرات منذ اكثر من عشرين عاما :
- بعضها من اجل تجديد رسالة الثورة ،و الانتقال الى ديموقراطية دون سياج ، والى رفع يد المؤسسة الدينية عن عقائد الناس و حرياتهم. و غالب أصوات هذا الحراك مصدره الاذكياء داخل مؤسسة الحكم ذاتها مثل حراك «اين صوتي» (الحراك الأخضر) سنة 2009.
-و بعضها من اجل مطالب اجتماعية تنخرط فيه الفئات الشبابية و سكان الأحياء الشعبية الذين يستفزهم الفقر وتستفزهم مظاهر الفساد في ركائز النظام :المؤسسة الدينية و الحرس الثوري و البازار مثل تحركات 2017 و2019 وبعضها تختلط فيه المطالَب بين الحقوقي و السياسي والاجتماعي مثلما يحصل حاليا.
إيران إلى أين؟
تحمل السلطات الإيرانية مسؤولية ما يحدث للأطراف الخارجية التي لا تريد خيرا للبلاد.
و للحقيقة فلا يمكن انكاروجود وفاعلية هذه الأطراف ولكن يجب الإقرار أيضا انها أنما تستثمر في الأخطاء والانحرافات.
يمكن للسلطات الإيرانية اليوم ان تواصل سياسة الهروب الى الامام ،وحينها يصبح نسق الاحتجاجات اكثر تسارعا ،وهي احتجاجات لا تؤدي بالضرورة الى إسقاط النظام ولكنها تؤدي بالتأكيد الى مفاقمة ازمة الشرعية والى اتساع الفجوة بين السلطة و الشارع ،كما قد تؤدي الى قلب الموازين بين المؤسسة الدينية و مؤسسات القوة الصلبة بما يشكل نهاية لحلم الثورة ،و نهاية المشروع الذي بشرت به الى مشروع قومي شبيه بما يحدث في روسيا او الصين .
ولكن امام القيادة الإيرانية خيار اخر ،هو الأكثر صعوبة ولكنه الأكثر أمانا ، وهو الذي يعطي نفسا جديدا للروح الثورية و يستفيد من الأروقة التي يفتحها الصراع الدولي بين الكبار بما يمثل فرصة امام المشاريع الكبرى بما فيها البرنامج النووي .
وإنما يكون ذلك بتجنب المكابرة، و اختيار الانصات لأصوات شعبها، والاقتناع بان مواجهة مؤامرات الخارج انما يكون بإعادة صياغة العقد الاجتماعي بما يؤدي الى ادماج كل المواطنين مهما كانت قومياتهم ومذاهبهم وافكارهم، والى بناء حياة سياسية مفتوحة ،والى تقليص دور المؤسسة الدينية لترفع كلكلها عن الدولة و عن التدخل في حياة الناس ،وتتفرغ لمهام التوجيه و التوعية و التثقيف ،و الى فتح الافاق امام الأجيال الشبابية ،والى تطبيع وضع البلاد في محيطها و هي التي تبدو اليوم في صورة المحتل لأربع عواصم عربية (بغداد ودمشق وصنعاء و بيروت ).
منبــــر: إيران في مفترق الطرق
- بقلم عبد الحميد الجلاصي
- 11:19 16/11/2022
- 1941 عدد المشاهدات
اثارت وفاة الشابة الإيرانية مهسا أميني اثر احتجازها وسوء معاملتها من قبل «شرطة الاخلاق» بسبب ما اعتبرته مخالفة لقواعد وضع غطاء الراس