الهجرة غير النظامية ومدن الأشباح

«مدن الأشباح» هو التعريف الذي أصبح يطلقه بضع الباحثين ومنظمات المجتمع المدني لتوصيف بعض المدن التونسية بعد تصاعد وتيرة الهجرة غير النظامية في الأشهر الأخيرة

من بلادنا نحو الضفة الشمالية للمتوسط.فقد فقدت عديد المدن شبابها الذين اختاروا «الحرقة» في أعداد كبيرة للهروب من واقع التهميش الاجتماعي وانسداد الآفاق الذي تعيشه بلادنا في الأشهر الأخيرة .وقد عبر احد مغنيي الراب بطريقة مباشرة عن هذه الوضعية في إحدى أغانيه

«أعطي فلوسي للقزاوي
يزيني من الركشة في القهاوي»
وقد جاءت عديد الأحداث الأليمة والفواجع في الفترة الأخيرة مثل فاجعة غرقي جرجيس و»حرقة» ابنة الأربع سنوات من ميناء صيادة والمآسي التي عرفتها مدن بنزرت والمكنين لتؤكد على عمق المأساة التي نعيشها اليوم مع التسارع الكبير في ظاهرة «الحرقة» وهروب الشباب من الوضع المتردي وانسداد الآفاق في بلادنا والارتماء في قوارب الموت.
ولفهم أسباب تسارع هذه الظاهرة وتحولاتها نظم المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والمركز الدولي للتحولات الديمقراطية ندوة هامة يوم الخميس 20 أكتوبر 2022 بمشاركة عديد الباحثين والفاعلين السياسيين والاجتماعيين تحت عنوان «تسارع الهجرة غير النظامية : التحولات التجربة والآفاق».
• في تسارع الهجرة غير النظامية وتحولاتها:
توقفت مداخلات الندوة عند نتائج هذه الظاهرة لتبين التسارع الكبير لهذه الظاهرة في الأشهر الأخيرة والتحولات المهمة التي عرفتها .ويمكن أن نشير إلى خمس تطورات كبرى عرفتها الهجرة غير نظامية في الأشهر الأخيرة .
يهم التطور الأول التسارع الكبير الذي عرفته الهجرة غير النظامية في الأشهر الأخيرة والتي بلغت أرقاما قياسية لم نعرفها منذ 2011.وكان عدد «الحراقة» قد وصل إلى 28000 سنة 2011 ليتراجع تدريجيا خلال السنوات الأخيرة حيث لم يتجاوز 3000 حالة سنة 2019.ثم عاد إلى الصعود ليتجاوز 19.000 في 2021 قبل أن يصل إلى 30.000 مهاجر وصلوا إلى أوروبا إلى نهاية سبتمبر سنة 2019. وإذا أضفنا إلى هذا العدد المفقودين في البحر والذين تم منعهم من الهجرة والذين بلغ عددهم 27.000 إلى حد نهاية سبتمبر يمكن لنا أن نقف على حجم المأساة .
فقد لمست ظاهرة الهجرة غير النظامية قرابة 60.000 شخص في بلادنا خلال التسعة الأشهر الأولى لهذه السنة .وهذه الأرقام مهيأة للارتفاع خلال الثلاثية الأخيرة .
أما الاتجاه الثاني فيهم تنوع الطرق « للحرقة».ولئن بقي البحر والهجرة إلى ايطاليا الأهم حيث بقي مرتفعا ليصل إلى 15.000 خلال التسعة أشهر الأولى لسنة 2022 الا ان الهجرة غير النظامية عرفت ظهور طرق أخرى مثل مليلة عن طريق المغرب وخاصة طريق البلقان التي عرفت تطورا كبيرا لتمر من اقل من 2000 سنة 2021 إلى قرابة 15.000 إلى حد نهاية سبتمبر من السنة الحالية .
أما الاتجاه الثالث فيهم الارتفاع الكبير لهجرة القصر والذي وصل إلى 3000 من مجموع المهاجرين إلى ايطاليا في التسعة أشهر الأولى من سنة 2022 لتمثل %20 من مجموع المهاجرين .
أما الاتجاه الرابع فيهم تزايد نسبة النساء في الحرقة والذين سيصبحن فاعلا مهما في هذه الظاهرة .وقد مر عدد النساء المهاجرات عبر ايطاليا من 135 سنة 2017 إلى 765 في التسعة أشهر الأولى لسنة 2022.
أما الاتجاه الخامس الذي يطغى على عمليات الهجرة غير النظامية فيهم الإعداد الجماعي «للحرقة» والتي لم تعد عملية فردية بل أصبحت عملية جماعية تشترك فيها العائلة والأصدقاء وأبناء الحي الواحد الذين يشتركون في بعض الأحيان لشراء قارب وإعداده للحرقة .
ولعل السؤال الذي يطرح نفسه اليوم ،ماهي الأسباب الدفينة التي تدفع أعدادا كبيرة من الشباب ومن القصر والنساء وحتى العائلات إلى ركوب قوارب الموت وتحدي المخاطر من أجل اجتياز الحدود ؟ فلا القوانين الزجرية في أوروبا مع صعود اليمين الفاشي ولا مخاطر البحر ولا الظروف الصعبة التي يعيشها المهاجرون غير النظاميين في أوروبا ولا المتابعة البوليسية في بلادنا منعت المهاجرين من الإقدام على هذه المغامرة بكل مخاطرها.
• في تطور أسباب الهجرة غير النظامية:
تناولت عديد الدراسات أسباب الهجرة غير النظامية لفهم العوامل العميقة التي تدفع بهذه الأعداد الكبيرة لهذه المغامرة الخطيرة وغير المضمونة العواقب .وقد تطورت هذه الدراسات حتى تفهم بأكثر دقة العوامل التي تدفع بتسارع وتيرة هذه الظاهرة في بعض الأحيان وتراجعها في مناسبات أخرى .
تشير اغلب الدراسات إلى الواقع الاقتصادي والاجتماعي وغياب الأفاق لأعداد كبيرة من المهمشين والذين يلفظهم النظام التعليمي في كل سنة والذين بلغت أعدادهم 100.000 سنويا وتمثل السبب الرئيسي للهجرة غير النظامية في السنوات الأخيرة .
إلى جانب الأسباب الاقتصادية والاجتماعية لابد من إضافة مسالة أخرى تهم أزمة مؤسسات الدولة وتراجع قدرتها على منع عمليات الاجتياز .كما تشير عديد الدراسات إلى تراخي القبضة الأمنية خاصة في الأعياد والمناسبات الوطنية التي تعرف ارتفاعا كبيرا في أعداد المهاجرين .وفي هذا المجال أشارت عديد الدراسات الميدانية إلى أن تورط الأمنيين ليس مؤسساتيا بل هو تورط فردي.
ومن بين العوامل لابد من الوقوف على العوامل الأساسية والتحولات الكبرى التي عرفتها بلادنا .فقد نتج عن حالات الإحباط التي عرفناها في 2011 اثر الثورة وبعد 25 جويلية 2021 حيث أعطيت الثقة والأمل في التغيير الاجتماعي ليعود الشباب إلى الحل الفردي و«الحرقة». والتي تشكل شكلا من أشكال الاحتجاج الفردي .
وقد أشارت الدراسات إلى أن السنوات التي أعقبت الانتخابات في 2014 و2019 عرفت تراجعا للهجرة غير النظامية باعتبار الأمل الذي خلقته لتغيير الواقع نحو الأفضل .إلا أن هذا الأمل سرعان ما تراجع ليحل محله الإحباط والذي دفع بالشباب من جديد إلى قوارب الموت .
لفهم العوامل التي تقود ظاهرة الهجرة غير النظامية لابد من العودة إلى الأسئلة الوجودية والمركزية الكبرى التي تخص معنى الوجود والحياة .اذ يطرح الشباب المُقدم على هذه المخاطرة هذه الأسئلة على أنفسهم والتي تقض مضاجعهم طوال سنوات قبل الإقدام على هذه المخاطرة .وفي اغلب الأحيان يدفع غياب معنى للحياة وللوجود وفقدان الأمل إلى ركوب قوارب الموت حيث يعطي الوصول إلى الضفة الأخرى معنى للوجود .
ويمكن في هذا المجال إضافة جانب هام لفهم ظاهرة « الحرقة».وديمومتها وتطورها السريع ويهم الاقتصاد غير النظامي الذي خلق في عديد المدن وسطاء وأصحاب مراكب ومراكز تموين وغيرها لتعرف» الحرقة « بداية ظهور أسس تطورها .
إن الصعود الصاروخي لقضية «الحرقة» والهجرة غير النظامية يطرح مسالة أساسية تهم آفاق هذه الظاهرة وقدرة السياسات العمومية على إيقاف المآسي التي تعيشها مدننا وشبابنا .
• آفاق «الحرقة» ودور السياسات العمومية:
تشير أغلب الدراسات الاستشرافية للمنظمات الدولية ومنظمات المجتمع المدني ومن ضمنها المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية إلى أن أفواج الهجرة غير النظامية لن تتراجع بل سيتواصل صعودها مع بداية الربيع القادم بعد هدنة خطيرة في هذا الشتاء نظرا للظروف المناخية .وهذا الاتجاه يطرح أسئلة ملحة وحارقة حول السياسات العمومية في كيفية التعاطي مع هذا الكابوس ودرء مخاطره.
يرتبط تطور ظاهرة « الحرقة « بأسباب هيكلية تتطلب إصلاحات عميقة في المجال الاقتصادي والاجتماعي لدفع النمو والتشغيل وفتح الآفاق والثقة في المستقبل أمام الشباب.وهذه السياسات الهيكلية طويلة المدى وتأخذ وقتا طويلا قبل إعطاء ثمارها.والتأخير في القيام بهذه الثورة الاقتصادية والاجتماعية سينتج عنه تأبيد للهجرة غير النظامية و«الحرقة». وفي الأثناء لابد لنا من التعاطي على المدى القصير مع هذه الظاهرة لتفادي المزيد من المآسي لشبابنا مع قوارب الموت .
هنا لابد من التأكيد - كما أشارت لذلك عديد الدراسات ومنظمات المجتمع المدني - إلى غياب سياسة واضحة المعالم في بلادنا للتعاطي مع الهجرة غير النظامية .وتقتصر سياستنا العمومية في هذا المجال على الحل الأمني من خلال إحباط عمليات «الحرقة» أو الاجتياز ثم سياسات الترحيل عبر مطاري طبرقة والنفيضة من العواصم الأوروبية والذي أظهرت فيه بلادنا الكثير من المرونة مقارنة بالبلدان الأخرى .
إن روتينية الآلام والمآسي التي نعيشها تتطلب من بلادنا ضبط سياسة واضحة المعالم للتعاطي مع الهجرة غير النظامية وصياغة هذه السياسة لابد أن تكون تشاركية تشمل - إلى جانب الطرف الحكومي - منظمات المجتمع المدني التي لعبت دورا كبيرا في الإحاطة بعائلات المهاجرين والمفقودين .
ولابد لهذه السياسات أن تدافع بوضوح عن مبدإ حرية التنقل المضمون في كل المعاهدات الدولية كتسهيل الحصول على الفيزا والذي من شأنه أن يخفف الضغط على الهجرة غير النظامية.
كما يجب على هذه السياسة أن لا تقتصر على منع الاجتياز بل لابد لها أن توفر إمكانيات الإنقاذ للغرقى في البحر .فالأرقام الرسمية تشير إلى أن المفقودين في مقبرة المتوسط يأتون في %38 منهم من السواحل التونسية .
كما يجب على هذه السياسات أن تعزز قدرة بلادنا التفاوضية مع الشريك الأوروبي في عديد المجالات مثل الوصول إلى اتفاقيات ثنائية لإعطاء عقود عمل مقابل هجرة الأدمغة،والاستفادة من الإعلان عن فرص العمل في البلدان الأوروبية لإدماج المهاجرين غير النظاميين وتنشيط عقود العمل للعملة الموسميين في القطاع الفلاحي والتأكيد على احترام التراتيب القانونية في عمليات الترحيل القسري .
وتبقى مسالة هامة في هذه السياسة وهي المسالة الإنسانية وضرورة الإحاطة بعائلات الضحايا والمفقودين لإعانتهم على تجاوز المحنة والعمل بصفة جدية على كشف الحقيقة .
تشكل مسألة الهجرة غير النظامية مأساة إنسانية كبيرة تعيشها عديد العائلات التونسية والمدن التونسية التي أصبح عدد منها أشباحا بعد غياب أبنائها .لكن الأجوبة على هذه الوضعية تتطلب سياسات هيكلية طويلة المدى لفتح الآفاق أمام الشباب وإعادة بناء الأمل وبالتالي لابد لنا من صياغة سياسات عاجلة لحماية الشباب والحد من هذه المآسي اليومية من خلال المنع من الاجتياز والإنقاذ والتفاوض من أجل إيجاد فرص لهجرة منظمة تحترم القوانين والذات الإنسانية

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115