خفايا ومرايا: حكمة الضب وغفلة ابن آدم

تعرّض الشيخ الذي ظهر على شاشة التلفزيون ليلة «عيد المولد»، إلى حملة تنمّر وسخرية واسعتين بسبب موعظته الدينية التي ذكر فيها حديث الضب

بلسان بشري فصيح مع الرّسول والغريب ليس ما ذكره الشيخ، الغريب هو ردّة فعل أولئك الناس واستهزائهم بالحكاية في حين أن كلّ ما حولهم يغرق في الخرافة إلى العنق.
لم يقع مئات وآلاف شباب تونس من خرّيجي الجامعات والمتحصلين على شهائد عليا في الحقوق والطب والهندسة ضحايا شيوخ الدجل والتخريف وتركوا بلادهم وكلّياتهم وراحوا يقاتلون شعوبا شقيقة ليست لها عداوة معهم طمعا في حوريات الجنة وثواب الجهاد، فصارت تونس التي كانت تفخر بكونها من الأوائل في محيطها في مجال تعميم التعليم ووضع اللبنات الأولى لمفاهيم والحداثة والتّقدم بالمنطقة موصومة بتفريخ الإرهاب والإرهابيين،؟.

ألم يحصل بعد سردية «قرن من الإصلاح والتحديث» وصدور مجلة الأحوال الشخصية أن يصطف مئات الآلاف من المواطنين وراء مشروع رجعي «ديني» ويسلّمونه مقادير البلاد ويدخلون أفواجا في صفوف الجماعات السلفية والتكفيرية بعد ثورة 2011 مصدّقين خرافة أنّهم « يخافوا ربي»؟
ألم يصدّق أغلبيّة الشعب قصّة الخطر الدّاهم والإصلاح والمحاسبة واسترجاع الأموال المنهوبة والكشف عن لغز الاغتيالات والتسفير والأمن الموازي فإذا بهم يجدون أنفسهم وسط الطريق يلهثون بين الدكاكين والفضاءات التجارية ومحطات بيع البنزين للحصول على حاجياتهم الحياتية؟
ألم يرتم ثلة من خيرة الأكاديميين وصفوة النخبة بين أحضان الحاكم الجديد بدعوى مساعدته على إصلاح ما أفسدته المنظومة التي سبقته، فإذا بهم يجنون الخيبة بعد أن تنكّر لهم صاحب السلطة وألقى بأشغال لجنتهم في سلّة المهملات فوجدوا أنفسهم بين براثن حكم فردي مطلق وقد دفع الكثير منهم ثمنا باهضا في مقاومته أيام شبابه وأيضا تحت دستور ثبّت «الإسلام السياسي» بحكم النص في فصله الخامس.

سبب انتعاش الخرافة وانتشارها ليست في قصص الضب وكليلة ودمنة وأرنب وسلحفاة موليير والتي كانت سياقاتها التاريخية والرمزية مصدرا للإلهام والتفكير، فالأسباب واضحة ويمكن الإشارة إليها بإصبع اليد، بدءا بالتصحر الثقافي الذي يطبع الحياة العامّة بالبلاد، ولقد اختص جزء من الإعلام بتلبية الغرائز والرغبات المكبوتة للبشر بحكايات الجنس والشعوذة والتحيل والحياة السرية للمشاهير ومغامرات الإثراء السريع، وتلك الحكايات لها تقبّل كبير في جميع الأوساط والمستويات وزاد من ذلك نظام التعليم ونوع البرامج المقدمة بمدارسنا وكلّياتنا الذي يتجه أكثر فأكثر نحو السلعنة والتكوين المختص المحدود،

لكن يبقى التصحّر الثقافي والسياسي الذي ساد لعقود بالبلاد، وهذا التصحر يظهر على فقر الكثير من الأعمال الفنية و على سلوك الفرد التونسي في الشارع والفضاء العام، لقائل أن يقول لكن ليس إلى هذه الدرجة فتونس مازالت تمتلك أعلاما نيرة في الفكر والثقافة والمسرح والسينما والأدب والصحافة وتمتلك كفاءات علمية وإدارية تألقت على مستوى عالمي، ذلك أيضا صحيح لكن أولئك مركونون إلى جانب ، ربّما يكنون محاصرين ولا يُلتفت إليهم كثيرا، اورّما فقدوا الرغبة في المشاركة في الحياة لأنّ نادرا ما نسمعهم والسائد أنّ لا صوت يعلو على صوت الخرافة والشعبوية.

ويشكل اليوم الخطاب السياسي الرسمي، الغطاء للخطاب الشعبوي الرائج في المنابر والإذاعات، ذلك الخطاب يكشف عن أنّ الجماعات التي تخطط لمستقبل تونس لا تختلف في شيء عن تلك الجماعات التي تسير على دوما هامش التاريخ ثمّ في ظروف معينة تقفز إلى الواجهة وتختفي مع انهيار نظرياتها التي تتبخر مع الواقع، رئيس الدولة نفسه قال «أنّه يشعر وكأنّه من كوكب آخر» ليعبّر عن اختلافه عن الجميع عدم اتفاقه معهم ، وفي خطبه يستشهد بمآثر الخليفة عمر الفاروق في الحكم وإدارة شؤون الرّعية ويستحضر في رسالة الغفران لأبي العلاء المعرّي وفي استدلالاته على بعض الأحداث قصة

الضب والأرنب والثعلب من «بحار الأنوار» للتعليق على وقائع أخرى، وتشبيه أحد خصومه بابن سلول الذي عاش في عهد الرسول لاتهامه بالنفاق، بصفة مجرّدة جميل جدّا أن يتحدّث الإنسان ويستشهد بالتراث، لكن عندما يتعلّق الأمر برئيس دولة العرف الجاري أن يكون الخطاب واضحا ومباشرا وبلغة العصر كي لا يعلق به أي لبس أو تأويل ه بأنّه أبعد ما يكون فصل الدين عن الدولة ، وقد قطع في ما بعد الشك باليقين من خلال الفصل الخامس بالدستور الذي أقرّ بأنّ تونس جزء من الأمّة الإسلامية وحمّل الدولة وحدها مسؤولية تحقيق مقاصد الإسلام بما يعني وبصريح العبارة تطبيق الشريعة

والخرافة ستزدهر وتحلو في بالمواعيد القادمة بعد أن نشطت بورصة التزكيات وعودة المال الانتخابي من بوابة أصحابه الطبيعيين دون غطاء الأحزاب هذه المرّة ، واحتمال تغيير قواعد اللّعبة في قلب اللّعبة التي جعلت لربح التنسيقيات فإذا بالبلديات هي التي تتسلل من ثنايا قانون كان يعتقد بأنّه قدّ بإحكام على المقاس فإذا مليء بالثقوب والثغرات، كل ذلك يترافق مع الانقطاعات المتكرّرة للبنزين والغذاء وإمساك الحكومة عن الكلام.

وفي ظلّ هذه السريالية التي نحياها في واقعنا وفي مخيالنا كيف تريدون لضبّ أن لا يتكلّم ويفتح بصيرة ذلك الأعرابي الذي طلب شهادته كي يؤمن بالرّسول، ونحن اليوم وأما صمت حكومتنا وعجزها عن الكلام وابتلاع الكثير منّا لألسنتهم نحتاج للضب وربّما إخوته وأبناء عمومته وأصحابه، حتى إلى كامل فريق حيوانات كليلة ودمنة لتصرخ بدلا عنّا كفاية «لم نعد نشتهي عنبا في عز الشتاء»

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115