خفايا ومرايا: نهاية الوهم.. إمّا الدولة وإمّا «الجماهيرية»

كتب أحد الجامعيين من مناصري الرئيس في صفحته يقول «حسب ما بلغني عن أسماء المرشحين للبرلمان بمعتمديتي، الأجدى أن نسعى منذ الآن لجمع توقيعات

سحب الثقة من الآن مهما كان الاسم» و هنالك العشرات الذين باتوا في نفس الموقف ، ومنهم مدونون يعتبرون من الركائز في مشروع الرئيس والذين يشعرون بنفس الخيبة وصاروا يصدعون بانتقاداتهم اللاذعة لاختيارات الرئيس ولا يترددون في اتّهام محيطه والمقربين منه بالانتهازية والرداءة، وانقلاب جزء من هؤلاء على مواقفهم المؤيدة للرئيس جزء ليس بالضرورة مؤشر على عودة الوعي إليهم واعترافهم بفشل المغامرة التي انخرطوا فيها ومن المرجح أنّهم أُضطروا لذلك بعد صدور القانون الانتخابي من طرف الرّئيس الذي سدّ الطريق أمامهم وأفقدهم الأمل في أن يكون لهم مكان في الخارطة التي سيفرزها
هذا القانون في ظاهره يستجيب لرغبتهم الجامحة في إقصاء خصومهم من المشهد دون جهد منهم، وبحشرهم في باطنه مع خصومهم في نفس الزاوية، فالشروط المجحفة والمعقّدة للترشح ومنع الأحزاب تقديم مرشحيها باسمها ومنعها من التمويل ومن القيام بالحملات الانتخابية يشملهم أيضا من ضمن جميع الأحزاب والنخب، فميزة هذا القانون هي الإقصاء ....إقصاء الأحزاب السياسية التي وضعها على هامش العملية الانتخابية ، فقدان المرأة لمكسب التناصف في الترشح والذين كانت تتمتع به في القانون السابق، وكان الفصل الحادي والستون من دستور الرئيس ضيّق الفرصة على أصحاب المهن الحرّة مثل الأطباء والمحامين والصناعيين من دخول المجلس الجديد، والحرمان من الترشح والنجاح يتهدد أيضا الشباب المهمش والمعدم من أنصار الرئيس لعدم امتلاكه الإمكانيات المادية لتجنيد 400 شخص من الرجال والنساء والجميع يعلم بأنّه لا يمكن بين عشية وضحاها تنظيف الانتخابات من استعمال المال والقضاء « كرتالات» بيع وشراء الأصوات خاصة بعد أن اتسع سوقها بالتزكيات , ولذا فأنّ هذه الانتخابات باعتماد التزكيات والاقتراع على الأفراد مهدّدة أكثر من سابقاتها بالمال الفاسد ولا نستغرب أن نرى أكثر الوجوه بالمجلس الجديد من المهربين والأثرياء بطرق غير مشروعة ووجهاء القرى والعشائر بما يقضي على التنوع الفكري وينزل بمستوى التسيس، كثيرون هم من يعتبرون أنّ هذه الخيارات تندرج ضمن رؤية جماعة 25 جويلية لتقزيم العمل البرلماني وجعل المجلس المقبل مجلسا صوريا، لا فاعلية له بحكم إفراغه من سلطته الرقابية.

الأطراف السياسية والشخصيات الأكاديمية التي ساهمت في تعبيد الطريق للرئيس لضرب المنظومة السابقة وفرض أمر واقع تشريعي وقانوني جديد وحشر الخصوم في الزاوية، تنظر اليوم باستغراب للتفكيك الذي يجري على الدولة والاتجاه بصفة واضحة وجلية نحو «النظام القاعدي»، والكثير من أولئك كانوا في السابق ينكرون ذلك ويعتبرونه مجرد خرافة تروج لها المعارضة لتعطيل مسيرة الإصلاح والمحاسبة التي يقودها الرئيس، وبما أنّ جهل فنون السياسية كجهل القانون لا يحمي المغفلين فإنّ أولئك لم يكتشفوا أنّهم معنيون بالإقصاء شأنهم شأن كلّ القوى التي تنتظم في أحزاب ومنظمات وكلّ من من كانت له علاقة من قرب أو عن بعد بالمنظومة السابقة.

وما لم يدركه ذلك الجزء من النخبة أو تجاهله عمدا أنّ المشروع الذي انبثق عن 25 جويلية ليس مشروعا إصلاحيا بالمعنى التقليدي للكلمة، وقد تمّ الترويج له للمحاسبة وضرب الفساد وإصلاح المؤسسات ثمّ إعادة الأمور إلى مسارها الطبيعي، إنما هو مشروع راديكالي يهدف إل إعادة صياغة للمجتمع والدولة على قيم ومبادئ مختلفة تماما عن تلك التي سادت منذ ما قبل انطلاق الدولة الوطنية كما جاء على لسان «كهنة» المشروع الجديد أكثر من مرّة ويقوم على الفرز الطبقي وهذا ما يفسر التمييز الذي يظهر في إسناد وظائف الدولة كالمعتمدين والولاة الذين يتمّ اختيارهم من الفئات الفقيرة والمهمّشة، والغاية من ذلك ليست تكريس العدل والمساواة بين أفراد الشعب لأنّ العدل لا يمكن أن يتحقّق بحفنة من الوظائف المحدودة العدد، بل استغلال الشعور بالضيم والحرمان لدى فئة كبيرة من الشباب لتشكيل طبقة تكون في تناقض مع المجتمع وفي عداء مع الأحزاب والتنظيمات السياسية وتميل للمغامرة وترى خلاصها في المسك بالسلطة للثأر ممن يرونهم من «البورجوازية» ومن الفئات المهيكلة التي انتفعت من العيش تحت مظلة الدولة.

وقبل شهرين من الانتخابات نشهد زحفا «للمفسرين» ولأنصار الرئيس على منابر الإذاعات والتلفزات للشحن الطبقي وطرح نقاشات وأفكار شبيهة بتلك التي طرحت في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، والتأكيد على مضيهم قدما في مواجهة كلّ من لا يوافقهم ويعارضهم وأنّ الانتخابات لن تفلت من أيديهم وبأنّها ستكون المناسبة لوضع حجر أساس جمهوريتهم الجديدة ، جمهورية بشركاتها الأهلية وببنائها القاعدي وبرئيسها وأنصاره، دون أحزاب ولا أجسام وسيطة ولا عناصر دخيلة وأنّهم سيفعلون ذلك لو كلفهم ذلك تحدي كلّ العالم مثلما وقع تحدّي «لجنة البندقية» و«المحكمة الإفريقية» و«موديز» ، فقط يمكن استثناء صندوق النقد الدولي قبل استعادة «الأموال المنهوبة»

الإيجابي في اللعب بالمكشوف الذي صار يلعبه الرئيس هو أنّه يرفع الوهم نهائيا عن البعض ولا يترك مجالا لوضع قدم هنا وقدم هناك للبعض الآخر، فإمّا الدولة وإمّا «الجماهيرية الجديدة».

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115