قبل أسبوعين أطلق أحد أعوان الديوانة النار على أحد باعة البضائع المهربة وسط العاصمة فأرداه قتيلا، وأثار ذلك الحادث جدلا واسعا بين من يدين تلك العملية ويعتبر أنّ فيها الكثير من التّهوّر والاستخفاف بالحياة البشرية وبين من يبرّر ذلك الفعل بالحزم والصلابة لفرض القانون وأنّ ذلك الجدل لم يلبث طويلا وتوقّف في حين بقيت شوارع العاصمة الفسيحة تغصّ بالبضائع المهرّبة على مرأى ومسمع الجميع ، ولا أحد يدري إلى متى ستسترسل السلطة في هذه المسرحية... مسرحية مقاومة المهربين ومطاردتهم والذي غالبا لا يدفع ثمنها إلا الباعة البسطاء منهم، متى ستعترف الدولة بأنّها هي من تركت جهات بأكملها تعيش على التهريب لعجزها عن إيجاد بدائل تنموية، فالعديد من التقارير تتحدّث على أنّ القطاع الموازي يبلغ نسبة 54 في المائة في جميع الأنشطة من مجموع الاقتصاد الوطني،.
الصورة الأولى وفي حادثة شبيهة بتلك وقعت في سيدي بوزيد سنة 2010 حين أحرق محمّد البوعزيزي نفسه بعد حجز عربته من طرف عون شرطة بلدي وبسبب ذلك اشتعلت البلاد وحدث ما حدث، الفرق أنّ هذه المرّة اختار الشاب محمّد أمين الدريدي أن يشنق نفسه بعيدا عن الأنظار، وقد راج أنّ سبب إقدامه على ذلك الفعل هو الهرسلة اليومية التي تعرّض لها من أعوان التراتيب البلدية لمنعه من الانتصاب واحتجاز «آلة وزنه». المضحك المبكي في هذه المأساة هو البلاغ الذي أصدرته وزارة الداخلية، فمن ناحية وبكلّ بساطة تُرجع انتحاره لخلافات عائلية عاشها المتوفى حسب زعمها، فهل هذا يؤمن ناحية أخرى تمّ إيقاف رئيس بلدية مرناق على خلفية تلك الحادثة والعبرة من كلّ هذا أنّ الدولة حتى بعد أن تغير لونها لم يتغيّر فهمها ومقارباتها الأمنية وسياسة أكباش الفداء قضايا لشديدة الخطورة
الصورة الثانية تأتي من جرجيس حيث تسود المدينة حالة من والهلع والترقب بسبب انقطاع الاتصال بمركب «حرقة» يحمل قرابة العشرين من أبنائها، والأدهى والأمر في هذه المأساة هو تطبيع جزء من المجتمع التونسي مع الحرقة، حيث كان الأهالي يتحدثون عن رحيل أبنائهم وأهاليهم على قوارب الموت وكأنّهم يتحدّثون عن سفر طبيعي عن طريق المطارات والموانئ، عذرهم في ذلك هو يأسهم من وجود فرص تشغيل لأبنائهم وبالتالي بناء مستقبلهم ببلادهم، لكن المثير للانتباه هو البرود الذي تعاملت به السلط مع هذه الظاهرة، فلا ندوات صحفية ولا خطب ولا مراسيم وحتى المقاربات الأمنية غابت فيها حيث عشرات القوارب تقريبا تخرج أسبوعيا من الموانئ التونسية وقليل جدا ان نسمع عن صدّ أو إيقاعات لشبكات «التهجير تلك»
الصورة الثالثة كانت من الحدود الجزائرية لدخول شاحنات السكر تكاد تكون باستقبالات رسمية، لكن مرّ اكثر من أسبوعان على ذلك والسكر لم يعمّر الدكاكين والفضاءات التجارية الفديوات المنشورة على صفحات التواصل الاجتماعي تنقل ما يشبه المعارك بالفضاءات التجارية عندما تضع هذه الاخيرة كمية محدودة من السكر على ذمة الحرفاء، وحتى صفقة الهند لا خبر عنها إلى اليوم ولا أحد يدري هل تاهت السفينة في البحر أ وأنّها قادمة من كوكب أخر، ولعبة» الغمّيضة» حول اختفاء المواد الأساسية من السوق لبعض الوقت ثمّ عودتها بأضعاف أثمانها متواصلة ممّا دفع البعض للتصريح بأنّ العملية مقصودة وممنهجة لرفع الدّعم ، لكن لا أحد يأتي بالخبر اليقين فالحكومة تلتزم الصمت أو الاقتصاد في الكلام وهي تعمل وكأنّها في السرّية وتترك الأمر للرئيس لمواصلة حربه على الاحتكار ومحتكرين وكأنّهم يلبسون «طاقية الإخفاء» يشعر بحركتهم ولا يراهم.
الصورة الرابعة تعكس طرافة التونسي ومدى قدرته في ظلّ قتامة المشهد في صنع مساحة من التنمر والسخرية حتى على كبار القادة والمسؤولين إذا اقتضى الأمر ذلك، فلم يشفع للرئيس ما يقال عن زهده وترفعه عن المنافع وتعرض إلى حملة فايسبوكية شعواء بسبب صفقة لحوم الحمراء تقدمت بها الرئاسة تفوق قيمتها المليار من الملّيمات، الأمر ليس جديد فقد تعرض قبله «المرزوقي» إلى نفس الحملة في قضية فاتورة شراء «سمك» وهو نفسه وفر المادة للفايسبوك في بعض خطبه لتشريح سمعة نواب وقضاة وإعلاميين ورجال وغيرهم، وبغض النّظر عن طرافة أو رداءة ما يروّج في مثل هذه الحملات فإنّه تعكس إلى حدّ ما مزاج الرأي العام التونسي وقد يكون أحيانا الهزل فضل طريقة للتعبير بصدق والمعالجات العقابية لن تجدي نفعا مع هذا النوع من التعبير.
في مشهد ميلودرامي هذه المرّة يجمع بين الهزل والجد يعود بنا كبير المفسرين إلى نقاش نظريات يعود عهدها إلى بد اية القرن العشرين، ويقول بكلّ ثقة في النفس أنّ مشروع الرئيس سيخرج بشيء جديد يحل مشكلة نظام الحكم للإنسانية قاطبة وليس لتونس فقط، شيء يتجاوز اشتراكية لينين وفوضوية « برودون» و
«جماهرية» القذافي، وبغض النظر عمن يتعاطى مع هذه التصريحات بسخرية أو يأخذها مأخذ الجد، فإنّ أفكار الرجل آخذة طريقها للتنفيذ ويعكسها بدقّة مرسوم الانتخابات الأخير الذي سيحول تونس إلى حقل تجارب ويفتح صفحة أخرى في مسلسل الدراما التونسية