منبــــر: في جمع شتات التّراث التّونسيّ المكتوب

ظهر مفهوم التّراث المكتوب في فرنسا خاصّة منذ الثّمانينات، وارتبط بقضايا منها ما يمكن أن نصطلح عليه بـ«الطّابع البنائيّ»

لاكتساب الصّفة التّراثيّة، أي بوجود مسارات تحوّل للنّصوص إلى وثائق تراثيّة patrimonialisation (يمكن أن نصطلح عليه بـ»التورثة»)، لا تختزل في النّواحي القانونيّة والتّاريخيّة. فالنّص لا يولد تراثيّا، ولا يصبح تراثيّا بالضّرورة بعد أن يدخل في الميدان العامّ، وتمارس الدّولة في اقتنائه من الخواصّ حقّ الشّفعة ((droit de préemption بل يصبح كذلك بفضل مسار اصطفاء ضمنيّ ومن نوع خاص، له صلة برؤية مجموعة لحاضرها وماضيها. مثال ذلك الوثائق المسمّاة عابرة ephemeria مثل نصوص الإشهار، أو أدلّة المسافرين، فهي تصبح تراثيّة بعد أن تزول وظيفتها الأولى، وبعد أن يتّخذ قرار اعتبارها ذات قيمة رمزيّة وتاريخيّة. وكذلك شأن أدلّة والتّراتيل الدّينيّة الكاثوليكيّة المزوّقة المسمّاة livres d’heure وقد كانت أكثر الكتب انتشارا بعد ظهور الطّباعة. كلّ هذه الوثائق لم تعدّ هامّة ونبيلة وجديرة بالحفظ إلاّ بفضل صيرورة «تورثة».
وارتبط مفهوم التّراث المكتوب في السّنوات الأخيرة بالرّقمنة وتقنياتها ومحاملها، والوساطة الثّقافيّة وخصوصيّاتها في هذا المجال، والبحث العلميّ وسبل تطويره ببناء قواعد البيانات من جهة أخرى. وتساهم الرّقمنة في دمقرطة المعرفة، كما تفتح شبكة الأنترنيت فضاء متعولما، ويمثّل الاثنان معا، الرّقمنة والأنترنيت فرصة ذهبيّة لبلدان الجنوب حتى تكشف عن ثرواتها الثقافيّة وتعرّف بها وتجعل إنتاجها الفكريّ والأدبيّ والعلميّ حاضرا.

لا أدرى متى انتقل مفهوم «التّراث المكتوب» إلى تونس. لكنّنا تبنّيناه بكلّ يسر لتسمية المشروع المركّب الذي نعمل على إنجازه منذ سنتين بين دار الكتب الوطنيّة والمجمع التّونسيّ بيت الحكمة، وعدّة مؤسّسات تراثيّة شريكة. تردّدنا في تسميته في البداية بين «المتحف الرّقميّ» أو «الافتراضيّ»، ثمّ استقرّ الرّأي على «متحف التّراث المكتوب». وعندما شرعنا في البحث عن عناصر هذا المتحف، لم نطرح قضايا نظريّة ولم نبحث عن تعريف لهذا المفهوم، ولم نكن إزاء مجموعات مكتملة، نقرّر «تورثتها». فلئن ارتبطت فكرة التّراث المكتوب بفكرة الاصطفاء والتّثمين في فرنسا وأوروبّا عامّة، فإنّها ترتبط عندنا بجمع الشّتات، وبالبحث عن الآثار المتبقية من ثقافات ماضية.

قامت فكرة المتحف على اختيار حوالي 500 (أصبحت في ما بعد حوالي 800) أثرا علميّا أو فكريّا أو أدبيّا أو نقيشة تاريخيّة نقدّمها في جذاذات ذات 350 كلمة، وتترجم إلى ثلاث لغات. ويجب أن يغطّي هذا الاختيار كامل الفترات التّاريخيّة، من العصور القديمة إلى اليوم، مع مشاركة مختصّين تجاوز عددهم المائتين. تجسّد المشروع سريعا في منصّة رقميّة تشاركيّة. وبعد أن طلبنا من كلّ مختصّ أن يقترح المداخل التي يراها ضروريّة، وبدأنا ننسج خيوط سجّاد أو برنس جماعيّ ضخم، كلّ منّا يمسك بجزء منه من خلال حسابه الخاصّ على المنصّة. كلّ منّا ينتج تعريفاته لآثار هذا المتحف، الموسوعة، ولكن نلتقي لنفكّر في المراجعة والتّرجمة، ولنفكّر في البعد المتحفيّ والسّينغرافيّ للمتحف الذي سيكون منصّة على الأنترنيت وكذلك موقعا مادّيّا يزار في ثكنة العطّارين، أي في المقرّ السّابق للمكتبة الوطنيّة.

خطرت ببالي صورة السّجّاد أو البرنس الضّخم الذي أخذنا ننسج خيوطه على نحو جماعيّ وتشاركيّ ومرح أيضا. لكنّ هذه الاستعارة الإيجابيّة هي الوجه من قفا سلبيّ. كنّا كمن يقف أمام جبل ثلج مأساويّ : جبل لم يبق منه إلاّ القليل الظّاهر الطّافي على السّطح. لا شيء تحت جزئه الصّغير الظّاهر. أمّا بقيّته فهي ضائعة أو مجهولة. ضاع الكثير ممّا نريد جمعه ومعرفته والتّعريف به. بل إنّنا لا نعرف الكثير عمّا نريد جمعه والتّعريف به. وكيف يمكن أن لا يخطر على بالنا موقف العاشق الواقف على أطلال الحبيبة الرّاحلة، لتأمّل فعل الزّمن فيها وبكائها؟
فكرة الفقدان ليست غريبة على الفكر النّقديّ العربيّ والمغاربيّ نفسه. فإن من أهمّ ما حفظناه عن الشّاعر والنّاقد ابن رشيق القيروانيّ (ت 1064 م) قوله في كتاب «العمدة» :

« وقيل : ما تكلمت به العرب من جيد المنثور أكثر مما تكلمت به من جيد الموزون؛ فلم يُحفظ من المنثور عشره، ولا ضاع من الموزون عشره.» أطلق ابن رشيق هذا الحكم ليمدح الشعر ويبيّن أنّ قافيته ووزنه عاملا دوام له وحفظ في الصّدور. لكنّه كان متفائلا في ما أقدّر. فديوان شعر ابن رشيق نفسه قد ضاع، وكتابه البديع عن شعراء عصره «أنموذج الزمان في شعراء القيروان» قد ضاع، كما ضاع ديوان معاصره ومنافسه ابن شرف ولم يبق منه إلاّ ما يزيد عن 600 بيتا. وضاعت أغلب كتب الرّقيق القيروانيّ ومنها تاريخه الذي أشاد به ابن خلدون، وعثر منه على جزء واحد في المغرب، وضاع كتابان له عن الخمر والنّبيذ « معاقرة الشراب»، و«كتاب الراح والارتياح». ولا حصر للكتب التي لم تصلنا خلال هذه الفترة وبعدها. وقبل دخول الإسلام بلاد أفريكا التي أصبحت تسمّى إفريقيّة، اكتشفنا أنّ ما بقي من الآثار الوثنيّة بضعة آثار منها فقرات يونانيّة من موسوعة ماغون، ورواية يونانيّة لرحلة حنون، وأمّا

الاثار النصرانيّة فهي كثيرة لكن لا يكاد يعرفها إلاّ المؤرّخون.
لم يبق من الشّعر والنّثر إلاّ قرابة العشر، أو ربّما أقلّ. ولا نعرف ممّا بقي وما فقد إلاّ القليل. فشأن ما تحت الجزء الظّاهر من جبل الثّلج معقّد كما سنرى.

هذا الفقدان ليس مجرّد انطباع أو قلق مسقط على الواقع، أو تأثّر بعالم الطلال والبكائيّات. إنّه معطى تاريخيّ في عالم يتّسم بما يلي :
-هشاشة محمل الكتاب وتعرّضه إلى آفات طبيعيّة لم يكن بالإمكان الوقاية منها ولا علاجها. فالذي رأى مخطوطات أكلتها الأرضة يدرك مدى قوّة هذه الكائنات الصّغيرة النّاشطة التي لا تُرى أجسامها وترى آثارها التّدميريّة. حتّى إنّ أسلافنا ابتدعوا ملاكا أو جنّيّا يحمي المخطوطات، سموه كيكتج أو كبيكج، بحيث نجد عبارة «يا كيكتج احم هذا الكتاب» مسطّرة في الكثير من صفحات المخطوطات القديمة. والمأساويّ أنّ كيكتج نفسه لم يسلم من الأرضة النّهمة التي لا تتورّع عن التهام التّعويذة نفسها.
-استهداف المكتبات في الحروب، لأنّ في تدميرها أو الاستيلاء على بعض ما فيها تدميرا لكيان العدوّ الرّمزيّ، وانتزاعا لما يمتلكه، وإلغاء لسلطته المعرفيّة، أو استيلاء عليها. ولنا على ذلك أمثلة كثيرة من مكتبة الإسكندريّة إلى مكتبة غرناطة وتمبكتو.

• يبدو أنّ الكتب كانت تحفظ في المساجد الكبرى والبيوت الخاصّة وعند الورّاقين، ولم تكن توجد في العالم الإسلاميّ مؤسّسات كنسيّة كبرى وأديرة محصّنة لحفظ الكتب وصيانتها.

• هشاشة وضع الأدباء والعلماء واضطرارهم إلى الرّحلة بحثا عن الرعاة من الملوك والوجهاء. ويتبيّن لنا من خلال تراجم الأدباء والعلماء أنّ الكثير منهم كان ضحيّة الغرق أثناء قطعه البحر الأبيض المتوسّط. فالتّيفاشيّ القفصيّ (ت 1253م) مثلا قد غرق مركبه في طريقه إلى المشرق، وتلفت أغراضه وهلكت أسرته ونجا بنفسه وحيدا. ويمكن أن نتخيّل غرق مؤلّفاته، ومنها كتاب يبدو طريفا من عنوانه، وهو «الدّرّة الفائقة في محاسن الأفارقة»، ومنها شرحه ديوان ابن هانئ الذي بقي لنا منه العنوان «الدّيباج الخسروانيّ في شرح ديوان ابن هاني».

نضيف إلى كلّ هذه العوامل وجود البلاد التّونسية في منطقة عبور وتنازع في قلب البحر الأبيض المتوسّط، وفي ما بين المشرق والمغرب والشّمال والجنوب. دمّر الرّومان قرطاج، ومثّلت موسوعة ماغون الفلاحيّة رمزا لوجود التّراث المكتوب في قلب الحروب والمعارك والقلاقل. فقد اعتبرت هذه الموسوعة غنيمة حرب، بما أنّ بلينوس الأكبر Plie l’Ancien ذكر أنّ مجلسَ الشيوخِ الروماني أمر بترجمتها وتولّت ذلك لجنةٌ ترأسها سيلانوس (Decimus Silanus) لأنّه كان يُتقنُ اللّغةَ البُونية. وفي أزهى العصور الثّقافيّة بعد الإسلام، أدّى زحف بني هلال إلى خراب القيروان وتشرّد ابن رشيق وابن شرف والحصريّ وغيرهم من الأدباء والعلماء. وتكرّرت غنائم الحرب الوثائقيّة مع شارل كانت في القرن السّادس عشر بتونس. فقد دهست خيول الإسبان كتب جامع الزّيتونة، فدمّرت بذلك الكثير من المخطوطات العربيّة. لكنّ شارلكان أخذ معه مجموعة من الوثائق الفاخرة منها المصحف الأرجواني المكتوب بالفضّة والذّهب، ومصحفا آخر خزائنيّا يحمل رقم 438 في 8 مجلّدات، والمصحفان محفوظان اليوم في المكتبة الوطنيّة الفرنسيّة. والغريب في الأمر أنّ هذه الوثائق كثيرا ما تنسب إلى ناهبها المنتصر-شارلكان- دون أن تنسب صراحة إلى موطنها الذي أخذت منه.

ومع العصر الحديث انفتح باب غنائم الهيمنة الاستعماريّة، وتزامن النّهب الاستعماريّ مع ضعف للوعي بالقيمة التّراثيّة للمواقع الأركيولوجيّة وللمنقولات ذات القيمة التّاريخيّة لدى «أهالي» البلاد.

فالفقدان درجتان : فقدان للآثار تماما، أو فقدان للأصول المخطوطة. وقد تبيّنّ لنا عند شروعنا في التوثيق البيبليوغرافيّ للأعمال التي نعرّف بها في المتحف أنّ عددا هائلا من أصولها المخطوطة توجد في عواصم البلدان الأوروبّيّة. وسأقدّم مثالين عن هذا متعلّقتين بأطرف ما ألّف في البلاد التونسيّة باللّغة العربيّة. فكتاب «قطب السرور في الأنبذة والخمور» للرقيق القيروانيّ لم تبق منه إلاّ مخطوطتان في باريس وأخرى وفيّانا وبرلين والأسكريول، والمخطوطة الأكمل توجد بفيانّا. ولا نجد في رصيد المكتبة الوطنيّة التّونسييّة سوى مخطوطين من مختارات منه. وكتاب «نزهة الألباب في ما لا يوجد في كتاب»، وهو من أوائل الكتب المؤلّفة في الباه، توجد مخطوطتان منه بالمكتبة الوطنيّة الفرنسيّة، وتوجد أخرى في المكتبة الملكيّة بكوبنهاغن.

وإذا نظرنا في جزء من التّراث المكتوب يتمثل في النّقائش، اكتشفنا أنّ الكثير منها يوجد في المتاحف الأوروبّية والغربيّة عموما، رغم أهمّيّته الرّاهنة. وسأقدم مثالين فقط عن هذه النّقائش : المثال الأوّل هو نقيشة تخليديّة مزدوجة اللّغة والأحرف : لوبيّة-بونيّة كانت بدقّة النوميديّة (ضريح آتيبان). وقد اقتلع النّصف الأوّل من هذه النّقيشة سنة 1842 بأمر من القنصل البريطاني وهي محفوظ الآن بالمتحف البريطاني. والمثال الثّاني يتعلّق بشاهدة قبر لشخص يعرف بـ»حصّاد مكثر «، تعود إلى حوالي سنتي 260 - 270 ميلاديّة، وتحمل قصيدة باللاتينية اكتشفت سنة 1882 بمكثر . هذه النّقيشة هامّة لأنّها تحمل درسا جميلا في الحياة يمكن أن يخاطب الكثير من الشّباب اليائس اليوم. يتحدّث فيها فلاّح مكثر عن مسيرته وعن كفاحه اليوميّ الذي جعله ينتقل من الفقر إلى الغنى، ويتحوّل من عامل فلاحيّ إلى ملاّك كبير وعضو ب السينا. توجد النّقيشة اليوم بمتحف اللّوفر، في قسم «التّحف antiquités اليونانيّة والأتروسكيّة والرّومانيّة». لا يذكر اسم البلاد التونسيّة في تقديم متحف اللّوفر لهذه النّقيشة، ولا يوجد أيّ تعريف بـ «مكتارس» المذكورة فيها.
ما العمل أمام هذه الأطلال، وهذا الغياب لوثائق مفقودة أو مسلوبة، وهذا النوع من إنتاج النّسيان لمصادرها؟

بيّنت في كتابات سابقة أنّ البكاء على الطلال قد تمّ تحريفه في العصر الحديث ليصبح موقفا ماليخوليّا لذات تستسلم إلى الحزن وتعجز عن إقامة الحداد، والحال أنّ البكاء على الطلال في الشّعر العربيّ القديم هو موقف تأمّل للفقد، وبكاء يتبعه رحيل وفعل. كان العاشق يبكي ويدعو خليليه إلى البكاء معه، ثمّ كثيرا ما ينطق بعبارة «دع ذا» في نوع من الإعلان عن نهاية الحداد. يترك البكاء ليمرّ إلى الرّحلة والضّرب في الأرض. من البكاء إلى العمل. من الفقد إلى إبداع موضوع جديد.

الجواب بعد معاينة الغياب يتمثّل حسب رأينا في برنامجين مختلفين. البرنامج الأول يتمثّل في الإقبال بشجاعة على اكتشاف المنسيّ والمخبوء من تراثنا المتعدّد ضرورة. والبرنامج الثّاني يتمثّل في المطالبة باسترجاع المنقولات الثّقافيّة المنهوبة أو المقتناة بطرق غير قانونيّة. وهذا الموقف يتطلّب شجاعة من نوع آخر. شجاعتان مختلفتان متكاملتان : شجاعة مواجهة الذّات، وشجاعة مطالبة الأقوياء والأغنياء بالعدالة والإنصاف.
فهناك تراث مكتوب مفقود أو مسلوب وهناك تراث مكتوب مكبوت. هناك فقدان بفعل عوامل خارجيّة وفقدان بفعل عوامل داخليّة. هناك نصوص مفقودة ومسلوبة.

كان إعداد متحف التّراث المكتوب مناسبة لاكتشاف جزء من جبل الثّلج الخافي هو كلّ النّصوص الخارجة عن الانتماء العربيّ الإسلاميّ. وقوفنا على الهيمنة الاستعماريّة التي جعلتنا نفقد الكثير من النّصوص والنّقائش يجب أن لا يحجب عنّا هيمنة المكوّن العربيّ الإسلاميّ الذي يجعلنا ننسى التّعدّد الدّينيّ والمذهبيّ واللّغويّ في البلاد التونسيّة. لقد سمح لنا هذا المشروع بأن نكتشف نقصا كبيرا في تكويننا يعود إلى سيطرة إيديولوجيا الشّعب الواحد ذي الهويّة الواحدة على منظومتنا التّعليميّة وعلى حياتنا العامّة. إنّنا لا نعرف إلاّ بعض العموميّات عن عصور ما قبل الإسلام التي استغرقت وحدها آلاف السّنين، في

حين بدأ انتشار الإسلام منذ القرن الثامن، أي منذ حوالي 1300 عاما. بل إنّنا لا نكاد نعرف شيئا عن المذاهب الإسلاميّة التي انتشرت في البلاد مثل التّشيّع الفاطميّ أو الإباضيّة، لأنّ تعليمنا انبنى على الإعلاء من شأن المذهب المالكيّ. وإنّنا اكتشفنا بدهشة وجود شاهد قبر لاتينيّ بالقيروان الصّنهاجيّة مؤرّخ بالتّقويمين المسيحيّ والإسلاميّ 397 /1007 هـ، لأننا استهلكنا طويلا أسطورة الانتشار السّاحق والنّهائيّ للإسلام، واكتشفنا بنفس الدّهشة وجود مدرسة تلموديّة بالقيروان في نفس الفترة، لأنّنا لم ندرس هذا التعدّد الذي ظلّ حكرا على المختصّين. وقد قدّم لنا أحد المؤرّخين المختصين، حميدة التّوكابري، وثيقة عجيبة نعتبرها استعارة عن التّراث المكتوب المكبوت : « لويس بوانسو هو من عثر عليها، في أوائل الأربعينيات من القرن الماضي، بين قطع عديدة من أغلفة مجلدات اختلطت بصفحات من القرآن الكريم. وقد أدرجها ضمن جرده لأشياء قيروانيّة، المنشور في تونس عام 1948.» إنّها تمثّل عقد هبة بالعبريّة حرّر بالمهديّة وينصّ على « نقل ملكيّة خادمة مسيحيّة، كانت حتى ذلك الحين في خدمة الواهب. وينصّ كذلك بوضوح على أنّه لا يمكن بأي حال من الأحوال إعادة بيعها أو المقايضة بها أو رهنها».

هذا البحث في الذّات ومكبوتاتها جزء من برنامج جمع الشّتات ونسج برنس التّراث المكبوت.

ويقتضي برنامج الجمع والنّسج، وتقتضي العدالة في مرحلة ما بعد الاستعمار ردّ اعتبار البلدان التي أخذت منها الممتلكات الثّقافيّة المعروضة في المتاحف والمكتبات الأوروبّيّة، بالاعتراف بمصدرها أوّلا، وبالانخراط في برنامج إعادة هذه الممتلكات إلى بلدانها الأصليّة أو على الأقل إعادتها بصيغة من الصيغ. فالرّقمنة يمكن أن تصبح وسيلة لتدفّق الوثائق التراثيّة دون قيد ولا شرط. ولكن لا بد أن يصبح الحقّ في استرجاع المنقولات التراثيّة من الحقوق الثّقافيّة المعترف بها، وأن يحظى بأداة قانونيّة دوليّة صريحة وواضحة. فمن غير المعقول أن تعرض قصيدة حصّاد مكثر إلى اليوم في متحف اللوفر دون توضيح لمصدرها، ومن غير المعقول أن نضطرّ إلى طلب نسخة منها في سنة 2022، وأن تطالبنا إدارة اللّوفر إلى دفع ثمن 1500 أو 1800 يورو مقابل توفير النّسخة، ومبلغ آخر لضمان نقلها.
-------

نص محاضرة قدمت في منتدى «إنسانيّات» 2022

بقلم: رجاء
بن سلامة

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115